موقف حصلي.. حين بكيت في مترو الأنفاق
الثلاثاء 30/يناير/2018 - 02:22 م
أحمد زكي
طباعة
لم أكن أعلم حين خرجت من منزلي هذا الصباح متوجهًا إلى عملي في بوابة المواطن أني على موعد مع القدر.. القدر الذي جعلني أبكي حين شعرت بمقدار الاستخفاف الذي نهين به آدميتنا، وجعلني حتى الآن أتساءل إلى أين وصلنا.
كالمعتاد ذهبت إلى محطة مترو كلية الزراعة حتى الجيزة، ودخلت إلى تلك العلبة من "السردين" محشورًا وسط كتلة من البشر، مستسلمًا لموجات المد والجذر البشرية التي لا تستطيع مقاومتها، محطة تلو أخرى حتى وصلت إلى قدري في محطة "السادات".
في محطة السادات بدأت أمواج بشرية جديدة تدخل إلى "علبة السردين" وازدادت موجات البشر، حتى دخل رجل يحمل طفلته الصغيرة وفي يده حصان بلاستيكي تلهو به الصغيرة، واستقرا مكانهما وسط الركاب، كما ركب وسط الركاب فتاة ملائكية الوجه لم تتخط عقدها الأول من العمر، ولكن قدرها أن تكون من ذوي الاحتياجات الخاصة.
إلى هنا والأمور تبدو طبيعية، لكن تركيزي رغما عني انصرف إلى تلك الفتاة الصغيرة التي أخذت بكل براءة تقترب من الحصان البلاستيكي، الذي راح الأب يحاول إبعاده عنها، وكأنها اقتربت من أسوار مملكة محرمة تخص ابنته وحدها، أو كأن تلك الفتاة من ذوي الاحتياجات الخاصة تحمل في يديها مرض الموت المعدي الذي لن ينجو منه أحد في رأي ذلك الرجل منزوع الآدمية الذي بدأ يدفعها فوقعت على الأرض.
بدأت الأمور عند هذا الحد تتحرك وكأني ارتدي نظارات مجسمة وأعيش في حالة من التصوير البطىء لكل ما يحدث، فكمية المعلومات والصور التي تلقاها عقلي في تلك اللحظة فاقت بكثير قدرات العقل العادي، فوجدت عيناي تحملقان في تلك الطفلة تسقط، والناس لا تبالي وكأن شيئًا لم يحدث، والأب يقف وكأنه لم يفعل شيئًا، وكأن ما يحدث حدث في فراغ معتم الخلفية لا أرى فيه سوى تلك الأحداث.
رأسًا على عقب انقلبت الأمور، ففجأة تحولت الحركة البطيئة للأحداث إلى حركة سريعة بشكل لا يصدق حتى لم يتمكن عقلي من متابعتها تفصيلًا، فكل ما حدث بعدها لم استوعبه إلا بعد حدوثه، حين لم استفق إلا بعدما وجدتني أمسك بذلك الرجل من كتفيه وأدفعه إلى جدار باب المترو المغلق ليرتد إلى فأصفع به الباب مرة أخرى وأخرى.
لم استفق إلا وأنا أرى تلك الجماهير الصامتة تتحرك وتتكلم وتتفاعل وتدب فيها الحياة مرة أخرى، ليعاتبوا ذلك الرجل على ما فعله.
لم استفق إلى على ذلك السيل من الدموع ينهمر من عينيي، ولم أدر حينها هل هو بسبب حزني على تلك الفتاة، أم على جحود الجمهور الصامت، أم على آدمية ننتهكها لحظة بعد لحظة.