"النقيب والباشا" قصة الصدام بين عمر مكرم و محمد علي
الأربعاء 27/يونيو/2018 - 09:31 ص
وسيم عفيفي
طباعة
" لم يكن عمر مكرم سياسياً وإنما كان شيخاً فقيهاً متديناً لا قبل له بالسياسة ومناورتها وتقلباتها القريبة والبعيدة، وهو رجل شريف طاهر لا يريد إلا خلاص الناس من أي سبيل، إنه يقبض على زمام الشعب ويسيطر عليه تماماً ولكن ما عساه أن يفعل ،إنه يرجو الخلاص من ولاة السلطان لا من السلطان نفسه،إنه يسعي للإنقاذ ولكنه لا يريد أن يكون ملكاً أو أميرا ... فليس هذا من خلق العلماء ولا حماة الشرع ولا رجال الدين، إن عليهم أن يولوا على الناس أصلحهم، وأن يشدوا أزر الصالحين، ويحولوا بينهم وبين الظلم إذا مالت بهم نفوسهم إلى الطغيان".
تمثال عمر مكرم
هكذا كان رأي المؤرخين الكبار في شخصية الزعيم عمر مكرم، غير أن الشق المجهول من حياته تمثل في علاقته مع الباشا محمد علي، فقد وصلت في القوة إلى علاقة يضرب بها المثل في التفاهم، وسرعان ما انتهت إلى أسوأ مما يتخيله عمر مكرم نفسه.
عبدالرحمن الرافعي
يحكي الرافعي عن تلك العلاقة فيقول أن محمد علي منذ ولايته يستشير المشايخ قبل فرض ضرائب جديدة، كما كان يمنحهم إعفاءات ضريبية علي ممتلكاتهم الخاصة، فكانت الحكومة كلما قامت بمشروع جديد أو دخلت في حرب جديدة، تحتاج إلى تدبير المال اللازم لهذا العمل ويترتب على ذلك فرض ضريبة جديدة لتمويل مشروعاتها وحروبها، وبسبب كثرة الحروب والصراعات التي واجهت حكومة محمد علي منذ بداية ولايته، اضطر محمد علي إلى فرض العديد من الضرائب التي تسببت في ضيق الأهالي وصعوبة الحالة الاقتصادية.
محمد علي باشا
ومما زاد في سوء الأمور أن فيضان النيل عام 1808 م كان ضعيفاً إلى حد كبير، مما أدى إلى ارتفاع الأسعار وزيادة معاناة الأهالي، وليس هذا - فحسب - بل جعل يعد العدة لتنظيم الأوقاف ومحاسبة المنتفعين بها على مقدار منفعتهم منها، وليس هذا فحسب بل أخذ في فرض الضرائب الثقيلة على عامة الناس، واتجهت أنظار الجميع إلى زعيم الشعب ينتظرون ما هو صانع في تلك الأزمة، وهتفوا باسمه، ولجأوا إليه ليتدخل في المطالبة بإنصافهم، وما لبث عمر مكرم أن أخذ يجاهر بأشد النقد لسياسة الباشا ومسلكه في حكم المصريين، بعد أن كان ينتظر منه أن يراعي حقوقهم وحرياتهم لما كان لهم من الفضل في إقامة العهد الجديد ، فاجتمع مع العلماء والأعيان وهو في شك من صدق عزيمتهم، وأخذ عليهم المواثيق لينصرن الحق ولا يرجعن إلا بعد أن ينزل الباشا على إرادتهم؛ ثم جعلهم يكتبون وثيقة ضمنوها ما يشكون منه، وأرسلها إلى الباشا مع رئيس الديوان، وكانت حماسة المجتمعين تحمل علي الظن أنهم لن ينكصوا ولن يترددوا .
الشيخ الشرقاوي من رموز الزعامة الشعبية
لم يكن للباشا عهد بأن يجتمع العلماء والأعيان على عداوته مثل هذا الاجتماع، وكان يعلم أن السيد عمر قد انحرف عنه، ولكنه مع ذلك كان لا يظنه يواجهه بالعداء مواجهة صريحة، فلما رآه يسير في الطليعة والجمهور من ورائه عرف أن الأمر جد خطير، وأنه مقبل على نضال عنيف، وأراد أن يزيل أسباب الشكوى بالملاينة والمفاوضة، قبل أن يتحرج الأمر، ويخرج من نطاق المسالمة، وأراد أن يقابل الزعماء ويعرض عليهم استعداده لإرضائهم، فأرسل إليهم يرجوهم في الحضور إليه لبحث الأمر والتشاور فيما ينبغي تقريره، ثم عمل على بث دعوته بينهم واستمالة من استطاع استمالته منهم، حتى تزعزعت الوحدة، واختلفت الآراء، فقبل بعض الزعماء أن يذهبوا إليه، وجعلوا يلومون من يتشدد ويرفض دعوة الباشا للمشاورة.
ولكن السيد عمر مكرم رفض أن يذهب ليفاوض في تفصيل الشكوى، قبل أن يعلن الباشا الأساس الذي يفاوضهم عليه، وكان رأيه أن الخلاف قائم على مبدأ لا يقبل جدلاً ولا مناقشة، فإن الباشا لا يصح له أن يغير ويبدل في نظم الحكم، ولا أن يفرض ما يشاء من الضرائب، ولا أن يحكم الناس بغير قانونهم وعاداتهم وما كسبوه من قبل من ضمانات لحرماتهم؛ وهذا المبدأ لا يحتمل المناقشة ولا المفاوضة، بل الواجب أن يبدأ الباشا بالتسليم به بلا قيد ولا شرط، ثم جعل يلوم الذين كانوا البادئين بالدعوة إلى الشكوى، وأصبحوا البادئين بالنكوص على أعقابهم، وأعلن أنه لن يرجع عما بدأ فيه ولو تركوه وحيداً .
وفي حقيقة الأمر لم يكن الزعماء على اتفاق فيما بينهم في كل الأمور بل كان هناك تنافس بينهم، وكان الكثيرون منهم يحسدون السيد عمر مكرم علي ما حصل عليه من مركز خاص لدى الشعب ولدى الوالي ، فقد دب التنافس والانقسام بين المشايخ حول المسائل المالية، والنظر في أوقاف الأزهر، وتولي المناصب المهمة، فاستطاع محمد علي استخدام هذا التنافس للنيل من عمر مكرم، بل إن بعض المشايخ هم الذين حاولوا الإيقاع بعمر مكرم لدى الوالي .
وعلى أية حال فقد استمرت المفاوضة والمراسلة بين الباشا والزعماء بعد ذلك مدة ستة أسابيع، وظل السيد عمر على رأيه الأول رافضاً أن يذهب للمفاوضة في أمر يرى أن الباشا لاحق له فيه، وأصر على أن يعدل الباشا أولا عن موقفه، ويعلن ألا حق له في تغيير نظام الضرائب بإرادته، والتمس الباشا كل وسيلة لحمل السيد عمر مكرم على التزحزح عن رأيه، تارة بالرجاء وأخرى بالوعد، ومرة بالملاينة، حتى قيل إنه عرض عليه مرة أن يرتب له في كل يوم كيسا قدره أربعون جنيها، وأن يهديه مبلغا قدره ثلاثمائة كيس عطاء معجلاً، فلم يرض من ذلك كله بشئ إلا أن يعدل الباشا عن خطته، وأن يتنازل عن السنة التي سنها في جباية الضرائب وفرضها بحسب مشيئته .
ولكن السيد عمر مكرم رفض أن يذهب ليفاوض في تفصيل الشكوى، قبل أن يعلن الباشا الأساس الذي يفاوضهم عليه، وكان رأيه أن الخلاف قائم على مبدأ لا يقبل جدلاً ولا مناقشة، فإن الباشا لا يصح له أن يغير ويبدل في نظم الحكم، ولا أن يفرض ما يشاء من الضرائب، ولا أن يحكم الناس بغير قانونهم وعاداتهم وما كسبوه من قبل من ضمانات لحرماتهم؛ وهذا المبدأ لا يحتمل المناقشة ولا المفاوضة، بل الواجب أن يبدأ الباشا بالتسليم به بلا قيد ولا شرط، ثم جعل يلوم الذين كانوا البادئين بالدعوة إلى الشكوى، وأصبحوا البادئين بالنكوص على أعقابهم، وأعلن أنه لن يرجع عما بدأ فيه ولو تركوه وحيداً .
وفي حقيقة الأمر لم يكن الزعماء على اتفاق فيما بينهم في كل الأمور بل كان هناك تنافس بينهم، وكان الكثيرون منهم يحسدون السيد عمر مكرم علي ما حصل عليه من مركز خاص لدى الشعب ولدى الوالي ، فقد دب التنافس والانقسام بين المشايخ حول المسائل المالية، والنظر في أوقاف الأزهر، وتولي المناصب المهمة، فاستطاع محمد علي استخدام هذا التنافس للنيل من عمر مكرم، بل إن بعض المشايخ هم الذين حاولوا الإيقاع بعمر مكرم لدى الوالي .
وعلى أية حال فقد استمرت المفاوضة والمراسلة بين الباشا والزعماء بعد ذلك مدة ستة أسابيع، وظل السيد عمر على رأيه الأول رافضاً أن يذهب للمفاوضة في أمر يرى أن الباشا لاحق له فيه، وأصر على أن يعدل الباشا أولا عن موقفه، ويعلن ألا حق له في تغيير نظام الضرائب بإرادته، والتمس الباشا كل وسيلة لحمل السيد عمر مكرم على التزحزح عن رأيه، تارة بالرجاء وأخرى بالوعد، ومرة بالملاينة، حتى قيل إنه عرض عليه مرة أن يرتب له في كل يوم كيسا قدره أربعون جنيها، وأن يهديه مبلغا قدره ثلاثمائة كيس عطاء معجلاً، فلم يرض من ذلك كله بشئ إلا أن يعدل الباشا عن خطته، وأن يتنازل عن السنة التي سنها في جباية الضرائب وفرضها بحسب مشيئته .
طابع بريد عن عمر مكرم
وكان هذا آخر ما استطاعه الباشا من الاحتمال، فعزم على الضربة الفاصلة، وفي يوم الأربعاء 10أغسطس1809م، أعلن في الجمع الحافل خلع السيد عمر مكرم من نقابة الأشراف، وأقام مكانه فيها الشيخ السادات، وأمر بنفيه من القاهرة إلى دمياط، بعد أن أشهد الجمع أنه قد بذل كل جهده في سبيل الوفاق والسلام، وكأن به قد أيقن قبل أن يقدم علي هذه الخطوة الجريئة، أن الزعماء كانوا جميعاً راضين عنه، وأنهم كانوا يرون تلك الضربة عقاباً عادلاً، وبنفي عمر مكرم وإقصائه عن ممارسة نشاطه القومي قضى على رمز الزعامة الشعبية وطويت صفحتها بعض الوقت .
أبلغ عمر مكرم أمر النفي والعزل، فتلقاه بهدوء يشبه أن يكون فرحاً وترحيباً،ويؤرخ الجبرتي لهذا الحادث بقوله :" فلما ورد الخبر على السيد عمر مكرم بذلك قال أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه، وليس فيه إلا التعب، وأما النفي فهو غاية مطلوبي، وارتاح من هذه الورطة، ولكني أريد أن أكون في بلدة لم تكن تحت حكمه، إذا لم يأذن لي في الذهاب إلى أسيوط؛ فليأذن لي في الذهاب إلى الطور أو إلى ورنة، فعرفوا الباشا فلم يرض إلا بذهابه إلى دمياط" .
وكان رحيل عمر مكرم إلى دمياط في 11أغسطس1809م، مشهدا مؤثرا، فإن الجمهور قد أدرك عظم النكبة، وشعر الناس بوحشة كبيرة لنفي الرجل الذي كان ملاذهم وملجأهم في رفع المظالم، فاجتمعوا لوداعه وإظهار عواطفهم نحوه، وكانت علامات الحزن والكآبة بادية على جمهور المودعين .
قضى السيد عمر مكرم في منفاه بدمياط إلى ربيع عام1812م، ثم نقل إلى طنطا، وكان في هذه المدة كثير الضجر والضيق، إذ كان لا يباح له الاختلاط بالناس، وكان الحراس يلازمونه حيث سار، فكان أشبه شيء بالسجين لما قيدت به حريته، وكان يحاول أن يخفف من ضجره بأن يخلق لنفسه عملاً يقبل عليه، فلم يجد إلا أن ينتقل بين حين وآخر إلي شاطئ البحر يغرق أفكاره المضطربة في أمواجه الصاخبة، ثم رأى أن يبني خاناً هناك لنزول التجار الذين كانوا يقصدون دمياط من سائر البلاد في سفنهم، وكأن بذلك الرجل لا ينشغل قلبه بما هو فيه من ضيق عن التفكير في الترفيه عن الناس والتخفيف من آلامهم .
أبلغ عمر مكرم أمر النفي والعزل، فتلقاه بهدوء يشبه أن يكون فرحاً وترحيباً،ويؤرخ الجبرتي لهذا الحادث بقوله :" فلما ورد الخبر على السيد عمر مكرم بذلك قال أما منصب النقابة فإني راغب عنه وزاهد فيه، وليس فيه إلا التعب، وأما النفي فهو غاية مطلوبي، وارتاح من هذه الورطة، ولكني أريد أن أكون في بلدة لم تكن تحت حكمه، إذا لم يأذن لي في الذهاب إلى أسيوط؛ فليأذن لي في الذهاب إلى الطور أو إلى ورنة، فعرفوا الباشا فلم يرض إلا بذهابه إلى دمياط" .
وكان رحيل عمر مكرم إلى دمياط في 11أغسطس1809م، مشهدا مؤثرا، فإن الجمهور قد أدرك عظم النكبة، وشعر الناس بوحشة كبيرة لنفي الرجل الذي كان ملاذهم وملجأهم في رفع المظالم، فاجتمعوا لوداعه وإظهار عواطفهم نحوه، وكانت علامات الحزن والكآبة بادية على جمهور المودعين .
قضى السيد عمر مكرم في منفاه بدمياط إلى ربيع عام1812م، ثم نقل إلى طنطا، وكان في هذه المدة كثير الضجر والضيق، إذ كان لا يباح له الاختلاط بالناس، وكان الحراس يلازمونه حيث سار، فكان أشبه شيء بالسجين لما قيدت به حريته، وكان يحاول أن يخفف من ضجره بأن يخلق لنفسه عملاً يقبل عليه، فلم يجد إلا أن ينتقل بين حين وآخر إلي شاطئ البحر يغرق أفكاره المضطربة في أمواجه الصاخبة، ثم رأى أن يبني خاناً هناك لنزول التجار الذين كانوا يقصدون دمياط من سائر البلاد في سفنهم، وكأن بذلك الرجل لا ينشغل قلبه بما هو فيه من ضيق عن التفكير في الترفيه عن الناس والتخفيف من آلامهم .
قبر وتمثال عمر مكرم
هذا وبعد أن استتب الحكم لمحمد علي داخل البلاد، عفا عن عمر مكرم وسمح له بالعودة إلى البلاد، وبالفعل عاد السيد عمر مكرم إلى القاهرة في 9يناير1819 م، وارتجت القاهرة لتلقيته والترحيب به، إذ خرج عامة الشعب إلى بولاق ليظهروا له قديم ولائهم ومحبتهم، وقصده الأدباء والشعراء للتهنئة، وإبداء ما يجيش في صدور الناس من العطف عليه والأنس به، غير أنه اختار أن يعتزل في داره ويتحاشى الظهور في الجموع زهداً وتباعداً عن مواطن الظنون .
وعلى الرغم من ذلك فإن محمد علي لم يأمن على مركزه من نفوذ عمر مكرم، ولم يطمئن لبقائه طويلاً في القاهرة، فقد كان مصدر قلق لمحمد علي، وحدث أن قامت في القاهرة عام1822م فتنة هاج فيها السكان، استياءً من فرض ضرائب جديدة على منازل العاصمة بعد فرضها على منازل البنادر في الأقاليم، وكادت تقع الفتنة لولا أن عاجلتها الحكومة بالحزم واتخاذ التدابير الكفيلة بحفظ الأمن، ونفذت الحكومة الضريبة كما قررتها، وقد ساورت الظنون محمد علي باشا، وارتاب في أن يكون للسيد عمر مكرم يد في تلك الفتنة، والواقع أنه كان بعيداً عنها، فأرسل إليه رسولاً في داره يوم 15 أبريل 1822م أنهى إليه أن محمد علي يأمره بمغادرة القاهرة والإقامة في طنطا، ومعنى ذلك أنه أمر بنفيه ثانياً من مصر، إلا أنه لم يبق في المنفى بعد ذلك طويلاً فقد توفي في العام نفسه .
وعلى الرغم من ذلك فإن محمد علي لم يأمن على مركزه من نفوذ عمر مكرم، ولم يطمئن لبقائه طويلاً في القاهرة، فقد كان مصدر قلق لمحمد علي، وحدث أن قامت في القاهرة عام1822م فتنة هاج فيها السكان، استياءً من فرض ضرائب جديدة على منازل العاصمة بعد فرضها على منازل البنادر في الأقاليم، وكادت تقع الفتنة لولا أن عاجلتها الحكومة بالحزم واتخاذ التدابير الكفيلة بحفظ الأمن، ونفذت الحكومة الضريبة كما قررتها، وقد ساورت الظنون محمد علي باشا، وارتاب في أن يكون للسيد عمر مكرم يد في تلك الفتنة، والواقع أنه كان بعيداً عنها، فأرسل إليه رسولاً في داره يوم 15 أبريل 1822م أنهى إليه أن محمد علي يأمره بمغادرة القاهرة والإقامة في طنطا، ومعنى ذلك أنه أمر بنفيه ثانياً من مصر، إلا أنه لم يبق في المنفى بعد ذلك طويلاً فقد توفي في العام نفسه .