تأتي القمة العربية الأوروبية التي تستضيفها مدينة شرم الشيخ، كمحطةٍ جديدة على طريق التعاون المصري الأوروبي، في مختلف المجالات، سواء الاقتصادية أو الأمنية والسياسية.
وفي حقيقة الأمر؛ فإن هناك تصور قاصر عن القمة لدى وسائل الإعلام والمتابعين على حدٍ سواء، باعتبارها ملتقىً اقتصادي فحسب، بينما في واقع الحال؛ القمة تتضمن على جدول أعمالها، مناقشة العديد من القضايا السياسية والأمنية التي تمثل مركزية كبرى للعالم في وقتنا الراهن، وأوروبا على وجه الخصوص.
وعلى رأس هذه القضايا، مشكلة موجات الهجرة غير الشرعية واللاجئين، التي تفاقمت بفعل الأزمات والحروب التي تشهدها الكثير من بلدان المنطقة، مثل سوريا وليبيا، بالإضافة إلى الأزمات المعيشية التي تواجهها دول أفريقيا جنوب الصحراء، وتجعل طرق الهجرة غير المشروعة مزدحمة!
الاقتصاد والأمن.. علاقة عضوية
ومن خلال ما أعلنته الخارجية المصرية، وتناولته بعض وسائل الإعلام المصرية والعربية عن القمة، فإن مراقبين يربطون بين القمة، وبين الدورة الأخيرة لمؤتمر ميونيخ للأمن العالمي، التي حضرها الرئيس عبد الفتاح السيسي؛ حيث يكاد أن يكون هناك تطابقًا بين أجندتَيْ الفعاليتَيْن، والقضايا التي تركز عليها مصر في كليهما.
ولكن، وفي المقابل؛ فإنه لا يمكننا تغافل حقيقة التداخل الكبير القائم بين الاقتصاد وبين الشأن الأمني والسياسي؛ حيث توجد علاقة ذات اتجاهَيْن، أي سببًا ونتيجة، بين التنمية وتحسُّن المؤشرات الاقتصادية، وبين الاستقرار السياسي والأمني.
والرابط بين الأمرَيْن، هو الاستقرار المجتمعي الذي ينتج عن حراك التنمية، بما يتضمنه من إيجاد وظائف، وتيسير سُبُل العيش؛ حيث ينعكس الاستقرار المجتمعي في صورة استقرار سياسي وأمني، بينما من ناحية أخرى؛ يقود الاستقرار السياسي والأمني، إلى قدرة أكبر على تحسين مؤشرات الاقتصاد، ولاسيما في القطاعات ذات الحساسية في هذه الجزئية، مثل السياحة وخدمات النقل والدعم اللوجستي، وما شابه.
وهو أمر يمكن التوصل إليه ببعض الجهد من خلال التحليل الشامل لأسباب وعوامل مشكلة الهجرة غير الشرعية؛ حيث إن العاملَيْن الأساسيَّيْن وراءها وفق تقارير الأمم المتحدة والمفوضية الأوروبية، هما: انعدام الأمن والاستقرار في المناطق الطاردة، والبطالة وتردِّي سُبُل العيش بشكل عام.
وبالتالي؛ فإن معالجة المشكلات الاقتصادية، وبدء حِراك تنموي شامل الأبعاد، هو جزء مهم من معالجة الأزمات والمشكلات التي تمثِّل هاجسًا للاتحاد الأوروبي في الوقت الراهن، مع ارتباط الهجرة غير الشرعية واللاجئين، بمشكلات أمنية عميقة، على رأسها الإرهاب، وارتفاع وتيرة العنصرية داخل المجتمعات المسقبِلَة للاجئين، سواء بسبب المشاعر القومية أو العمليات الإرهابية التي تورط فيها لاجئون من بلدان العالم العربي والإسلامي، وأفريقيا.
قاد ذلك إلى عواقب سياسية واجتماعية وخيمة على هذه البلدان وحكوماتها، ومن بينها، صعود تيارات اليمين المتطرف، وبالذات اليمين القومي الشعبوي، والتي هددت المكانة السياسية التي ظلت تتمتع بها أحزاب اليمين المحافظ ويسار الوسط طيلة العقود الطويلة التي تلت الحرب العالمية الثانية؛ حيث صارت هذه الأحزاب حاكمة بالفعل في إيطاليا، وقوة برلمانية كبيرة في هولندا وألمانيا.
أوروبا وإسناد مصر
وتبدو هذه المرئيات واضحة في سلوك الأوروبيين إزاء مصر؛ حيث إن التعاون الاقتصادي، هو واحدٌ من أهم مجالات التعاون بين الجانبَيْن، المصري والأوروبي في السنوات الماضية؛ حيث يُعتبر الأوروبيون هم الشركاء الأهم لمصر في المجال الاقتصادي والتنموي.
فالاتحاد الأوروبي، يمثل الشريك التجاري الأول لمصر، بنسبة تصل إلى 30 بالمائة من حجم صادرات مصر السلعية مع العالم، بحسب الموقع الرسمي لوزارة الخارجية المصرية.
كما تمثِّل الشركات الأوروبية، الضلع الأهم في الأنشطة التنموية والاقتصادية الإستراتيجية التي تتم في مصر، فشركات أوروبية، مثل "سيمنز" الألمانية، و"إيني" الإيطالية، هما شريكَيْن أساسيَّيْن في الإستراتيجية المصرية لتحويل البلاد إلى مركزٍ إقليمي للطاقة الكهربائية والأحفورية، وهي واحدة من أهم أركان السياسات التنموية المصرية، وخطة (مصر 2030).
ويبدو ذلك الارتباط دائمًا في محادثات الأوروبيين مع القيادة المصرية، فعلى سبيل المثال، وخلال اللقاء الذي جمع بين الرئيس السيسي، وبين دونالد توسك رئيس المجلس الأوروبي، والمستشار النمساوي سيباستيان كورتز، في سبتمبر 2018م؛ جرى التأكيد على الشراكة الاقتصادية الأوروبية المصرية، وفي ذات الآن، على أهمية الدور المصري في مكافحة الهجرة غير الشرعية عبر المتوسط.
القمة وتعضيد مكانة مصر
في تعليقها على القمة؛ تقول صحيفة "الاتحاد" الإماراتية (21 فبراير 2019م)، إن القمة تنطلق لاستعادة الحوار العربي الأوروبي إزاء القضايا التي تواجه العالم بأسره، وأن انعقادها في مصر، يعتبر تقديرًا لدورها فى المنطقة، ويؤكد استعادتها لمكانتها الدولية.
وهو شعور عام في ظل التحركات التي تقوم بها القيادة المصرية في المرحلة الراهنة، على مختلف القطاعات في الداخل والخارج، وحققت فيه نجاحًا كبيرًا برغم كل الظروف الصعبة التي تمر بها مصر منذ سنوات.
وفي هذا الإطار، يستمر الأوروبيون خلال القمة الحالية في تدعيم علاقاتهم الاقتصادية مع مصر؛ حيث يشارك ملحقون تجاريون يمثلون تقريبًا كل دول الاتحاد الأوروبي، مع ممثلين لشركات أوروبية كبرى.
وهو ذات ما جرى خلال قمة ميونيخ؛ حيث إن اجتماعات الرئيس السيسي مع المسؤولين الأوروبيين والدوليين خلال القمة، ونقاشاته معهم في القضايا الأمنية والسياسية، رافقها نشاط كبير له ولوزراء المجموعة الاقتصادية الذين رافقوه، ومنهم وزيرة الاستثمار، الدكتورة سحر نصر، مع ممثلين لشركات ألمانية وأوروبية.
فالتقى الرئيس السيسي مع إيكارت فون كلايد، نائب رئيس مجموعة "دايملر إيه جي"، والتي أعلنت عن عودتها إلى القطاع الصناعي المصري مؤخرًا.
كما التقى الرئيس عددًا من رؤساء كبرى الشركات والبنوك الألمانية والأوروبية الأخرى، ضمن المائدة المستديرة التي نظمتها مجموعة "أجورا" الإستراتيجية، والتي تضم في عضويتها عددًا من كبرى الشركات والبنوك العالمية.
ونقف هنا عند النقاشات التي جرت خلال لقاء "أجورا"؛ حيث تشير إلى ما تقدَّم حول الارتباط بين الاقتصاد وبين الأمن والاستقرار السياسي، وإسناد الأوروبيين لمصر من هذه البوابة، وأن ذلك لم يكن ليتم لولا نجاح مصر في امتحان التنمية والاستقرار الصعب.
فرؤساء الشركات والمؤسسات الذين حضروا اللقاء، أكدوا أولاً على أهمية ومفصلية ما شهدته مصر في السنوات الأخيرة من حِراك تنموي، في قرارات بعضهم بالاستثمار والاستقرار في مصر.
ثم أشاروا إلى أهمية الدور المصري فى القارة الأفريقية والشرق الأوسط في القضايا التي تهم الأوروبيين التي أشرنا إليها، مثل الهجرة غير المشروعة وإرساء الأمن، مما جعلهم يتحمَّسون لتطوير أوجه التعاون مع مصر، وزيادة استثماراتهم فيها في الفترة المقبلة، مما يسهم في تحقيق التنمية الشاملة في بلادنا.
وثمَّة نقطة لافتة هنا في الأحاديث التي جرت في ميونيخ، ويتوقَّع أن تسود في قمة شرم الشيخ بدورها، وهي تأكيد جميع الأطراف هناك على أن التنمية في مصر، الجارية، والمطلوبة في المستقبل المنظور، يجب أن تشمل الجانب الاجتماعي، مع الإطار الاقتصادي؛ حيث الرابط المهم الذي أشرنا إليه بين التنمية وبين الاستقرار السياسي والأمني.