في
يوم الشهيد في مصر 2019، نحتفي بذكرى الشهيد بإذن الله تعالى، الفريق
عبد المنعم رياض، رئيس أركان حرب القوات المسلحة المصرية بعد نكسة يونيو من العام 1967م.
ولا يعلم الكثيرون الأسباب التي دفعت إلى أن يكون
عبد المنعم رياض «أيقونة» للوطنية والإخلاص، في ظل أن دوره في المجال العسكري، كان في إطار ظلال نكسة يونيو 1967م، وبعيدة عن الألق الكبير الذي صاحب انتصار رمضان أكتوبر من العام 1973م.
يوم الشهيد في مصر 2019
ولو أنصف التاريخ؛ لوضع رياض في مصاف عظماء العسكرية العالميين، مثل كلاوزفيتز، وجوكوف، وغيرهما من الأعلام الذين صنعوا أمجادهم على أرض المعارك والحروب.
وهذه ليست مبالغة؛ إذ أن الشهيد بإذن الله، الفريق عبد المنعم رياض، قد نجح في مهمة شديدة الصعوبة بأي معيارٍ عسكري، وقام بها في ظروف سياسية واجتماعية وعسكرية مستحيلة فعلًا.
وتتعلق هذه المهمة بإعادة الانضباط وتجميع القوات بالمعنى التقني العسكري لمفهوم القوات، بعد نكسة يونيو 1967م.
والذين درسوا الحروب العربية الصهيونية من الجانب العسكري بشكل جيد، ومنهم أساتذة كبار، مثل اللواء زكريا حسين، الرئيس السابق لأكاديمية ناصر العسكرية، والمؤرخ العسكري الأمريكي، تريفور إن. دوبوي، يعرفون تمامًا مدى صعوبة المهمة التي أوكلها الرئيس الراحل، جمال عبد الناصر، لرياض، وبالتالي؛ يدركون عظمة الرجل.
ويفهم الخبراء العسكريون ذلك لأنهم يعلمون تمامًا معنى عودة قوات مهزومة ومهلهلة بفعل قرار الانسحاب العشوائي، الذي أخذه المشير عبد الحكيم عامر، إلى الوطن بالصورة التي تمت.
ومما فاقم الأزمة في حينه، ضعف تأهيل العناصر التي تم حشدها للمعركة منذ أزمة مايو 1967م، والتي تصاعدت بعد إعلان الرئيس الراحل جمال عبد الناصر، غلق خليج العقبة في وجه الملاحة الإسرائيلية، في العشرين من مايو من ذلك العام.
وبحسب كُتَّاب ومؤرخين، ومنهم محمد حسنين هيكل، في سلسلته "حرب الثلاثين"، وخصوصًا الجزء الثالث منها، "الانفجار 1967"؛ فإن الموقف كان ارتجاليًّا لدرجة مخيفة، لدرجة أن الغالبية من العناصر التي تم إرسالها إلى شبه جزيرة سيناء في ذلك الحين، لم تكن قد حملت سلاحًا في حياتها، في ظل استنزاف حرب اليمن للقوة البشرية المحترفة في الجيش المصري؛ جنودًا وضباطًا.
ولقد دفع ذلك بعض المؤرخين، مثل عبد العظيم رمضان، إلى التأكيد على أن القيادة السياسية والعسكرية المصرية في حينه لم تكن تنوي خوض معركة مع إسرائيل فعلًا.
يوم الشهيد في مصر 2019
ومن دون الخوض في تفاصيل سياسية بعيدة عن الموضوع؛ فإن هزيمة قوات غير مدرَّبة مثل هذه، بالإضافة إلى تبعات قرار الانسحاب العشوائي؛ كل ذلك أدى إلى فوضى مرعبة في قواتنا المسلحة في حينه، لدرجة أن بعض العناصر حمل سلاحه الشخصي، وذهب إلى بلاده في أقاصي مصر، واستغرق البحث عنهم أشهر طويلة قام فيها سلاح المخابرات الحربية والاستطلاع، وجهاز الشرطة العسكرية، بدور شديد الأهمية بالتعاون مع السجلات العسكرية.
وكلها عناوين، مجرد عناوين لأمور شديدة الصعوبة، وفي كلٍّ منها، آلاف التفاصيل؛ تقول بعِظَم المسؤولية التي تولاها
عبد المنعم رياض في حينه، بدءًا من تجميع شتات القوات التي عادت إلى مسقط رأسها في ربوع مصر، وإعادة تأهيل الضباط والجنود نفسيًّا بعدما جرى، وإعادة صهرهم في بوتقة واحدة، متعاونة، وتعمل بتنسيق كامل بين بعضها البعض، وصولًا إلى أن تخوض هذه القوات عمليات أسلحة مشتركة.
والعبارة الأخيرة ليست من نافل القول، وإنما هي تشير إلى بعض الأمور ذات الطابع الفني في المجال العسكري، على أكبر قدر من التعقيد والشمول.
فعمليات الأسلحة المشتركة، تعني أن القوات المسلحة قد وصلت إلى مستوىً مهني محترف، مكَّنها من التنسيق بين بعضها البعض، في التحركات والأنشطة العملياتية على الأرض.
وهي عملية تنقسم إلى قسمَيْن؛ الأول يتعلق بتدريب وتأهيل القوات نفسيًّا، ودمجهم في بوتقة مؤسسية واحدة، ذات طابع اجتماعي بالمفهوم الإنساني، والثاني، توفير وضبط عناصر القيادة والسيطرة على الأرض، وفي الأجواء والمياه المصرية، والعمل بشكل متآلف ودقيق بين كل الأنساق العسكرية من خلال ذلك كله.
يوم الشهيد في مصر 2019
هذا الأمر قام به
عبد المنعم رياض بنجاح كامل، وساعده على ذلك، مجموعة من الأمور، منها طبيعته الشخصية الحازمة، وانضباطه العسكري، ووطنيته، وإخلاصه في عمله، بالإضافة إلى حالة من الوجدان الجمعي تكوَّنت لدى المصريين، بضرورة البدء سريعًا في عملية الإعداد للمعركة المقبلة لاستعادة الأرض والكرامة.
ولقد كان من صعوبة هذا الأمر؛ أن عبد الناصر لم يترك هذه المهام لوزير الدفاع في حينه، الفريق محمد فوزي، وحده، بل قسَّم المهام بينهما، بحيث جعل فوزي لشؤون التسليح والتدريب، ورياض لشؤون الانضباط والربط داخل وبين القوات المسلحة، بشكل - في ظل الواقع الذي كان سائدًا - كان يُعتبر بمثابة عملية إعادة بناء وهيكلة القوات المسلحة المصرية بالكامل، بما في ذلك أنساقها العسكرية، من مستوى الجيش الميداني، وحتى أصغر سَرِيَّة ونقطة مراقبة فيها.
......
......
في الأخير، كان
عبد المنعم رياض ناجحًا جدًّا في مهمته؛ حيث بدأت مصر في وقت قياسي، في استعادة أنفاسها مما جرى في يونيو 1967م، بكل تبعاته السياسية، وهزيمة الصهاينة في حرب الاستنزاف.
وكان استشهاده - رحمه الله تعالى - في المكان الذي استهدفته فيه المدفعية الإسرائيلية، أبلغ دليل على تعمُّق رياض في مهمته المقدسة على النحو الذي ذَكَر المقال خطوطه العامة فقط، لدرجة أنه كان حريصًا على متابعة الموقف العسكري حتى مستوى أصغر الوحدات القتالية على الجبهة، ومدى التزامها في مواقعها المتقدمة البعيدة، بتعليمات القيادة العامة وهيئة الأركان.
رحم الله تعالى
عبد المنعم رياض، الذي علَّمنا، ورحم الله تعالى كل شهداء الواجب والفداء، والذين سجَّل استشهادهم، وسجَّلت بطولاتهم، نورًا لنا نسير على هداه.