تحدثت في ليلة سمر امتدت حتي الفجر، فجر القاهًرة الساحرة الجميل مع بعض الأصدقاء عن الجمال، ومضمونه، ومعناه، وهل الجمال هو ما ترصده العين كجمال الطبيعة او جمال وجه القمر أو جمال امرأة مثلا؟.. أم جمال الروح، أي ما يبطنه الظاهر وما يضطرنا الي الغوص في داخل الإنسان..الجمال لدينا جمال المعشر أو ما يسمونه حلو المعشر، وجمال الزهوروالألوان والفنون والشعر والقصائد، فجمال الزهور وتنوعها اللوني ينعشنا ويمنحنا التفاؤل بالحياة، وهكذا الألوان التي تشعرنا بأنا لحياة جميلة ويجب أن نعيشها، ناهيك عن حبنا نحن العرب للغة الضاد وكل ما تحويه من جمال، ولهذا أبدعنا في الشعر وفنونه وتنوعت لدينا القصائد ما بين غزل ومدح وجمال، وبطبيعة الحال لم نتحدث عن قصائد الذم وهي كثيرة في تاريخنا أيضا.
وللحق أقول إن الحديث عن جمال المرأة استغرق وقتا كثيرا من الجلسة، حتي أبدعنا جميعا في هذا الجمال، ولكن الحديث عن جمال روح المرأة استغرق معظم الوقت، خاصة عندما تطرقنا الي ثقافتها، وتحدثنا عن جمال الظاهر والباطن، والفارق بين الوجه والروح، الطلة والقلب.
فقد أسهبنا في حديثنا، وسأكتب ملخصا عما رويناه بدون تحديد من القائل حتي أعفي الكل من المسؤولية أمام أسرته وذويه وزوجته، وخرجنا جميعنا بأوصاف جديدة للجمال وتعبيرات أجدد، ليس فقط جمال المرأة ولكن الجمال عموما، جمال الكون والطبيعة والخلقة والمخلوقين فما أعظمه الخالق في خلقه الجميل. فمن يمعن النظر في بعض طيور الزينة لا يسعه إلا شكر الخالق، وتخرج من فمنا "سبحانه الله في خلقه"، وعندما تقع أعيننا علي زهرة موردة ومتفتحة حديثا نجدنا نسبح بعظمة الله الذي أبدع هذه الزهرة، فالجمال ينبوع من السعادة لا ينضب، ولكن بشرط أن نعرف كيف نكتشف هذا الجمال ومكامنه. فالجمال مثل الزهرة، فيعطرها، فنحن نحب الجمال نفسه والزهرة في نفس الوقت حتي قبل أن ننعم بالعطر، وفي حواراتنا عن الجمال، تذكر أحدنا الأسماك وما تحويه من تنوع لوني لا يستطيع أشهر فناني العالم أن يتخيله أو يرسمه.
واكتشفنا أن التفاول نوع من أنواع الجمال واليقين بأن الحياة تستحق أن نعيشها، فطالما الحياة تزخر بكل ما هو جميل وحسن فلم لا نحياها ونستمتع بحلوها، فالوجود نفسه جمال، لماذا؟ لأننا نري الجمال في كل جزء فيه، والحب جمال، لأنه عندما نحب نرتقي بروحنا ونسمو بها ونري مالا أعين رأت من قبل، وتختلف نظرتنا سواء بالعين أو بالقلب، لأننا في هذه الحالة نري الجمال الداخلي أو جمال الروح الذي لا يخدع ولا ينتهي فهو دائم مثل الكون. وإذا كانت عين المحب أو نظرته لحبيبته تكون نظرة جميلة، فهذا لأنه يريد هذا الجمال وهذا السمو، فالجمال والحب متلازمان حتي وإن كان الحب قصيرا. فالحب قبل أن يكون مشاعر جميلة فهو الجمال نفسه، لأنه يجمعما بين روحين جميلتين، فهذا ليس جمال الشكل حتي ننخدع به، ولكنه جمال الداخل الذي لا تراه سوي الروح. وجمال المرأة ذاته لا يتمثل فقط بجمال طلتها أو قدها الفتان أو عيونها الغزلانية، ولكن جمالها الحقيقي والدائم ينبع من كون روحها مرحة ولطيفة تأسر الألباب. وقد قيل في جلستنا، "إن أحسن الُحسن هو حسن الأدب وإن أجمل الجمال هو جمال القلب".. هذا بغض النظر عن المغرور دوما بالجمال والذي قال إن الفتاة الجميلة تحمل مهرها على جبينها، وإن كان تعرض هذا الصديق لبعض النقد من الحاضرين، وكان مما قيل اعتراضا علي رأيه أن المرأة الجميلة لا تعطي أكثر مما لديها في حين أن المرأة حلوة المعشر والمجلس والروح تحمل عذوبة في الحديث وتمنحنا إكسيرالحياة كمياه النهر الصافي. وأضاف بعضنا أن الفتاة أو المرأة ذات الروح الحسنة تشع حسنا وتضيء ما حولها حتي لو غاب الجمال الظاهر عن وجهها.
ثم الأهم من كل ما سبق، فالجمال ليس نظرة وإنما شعور وإحساس ورضاء نفسي، فالرضا يضئ وجه الإنسان ويمنحه قوة إضافية بسبب شعوره بالتفاول والقوة، فالجميل من يري الدنيا جميلة وصبوحة ومشرقة.
والحق أقول إني كنت مشاركا ومستمعا حتي انتهي مقطع الجمال الأنثوي، ولكني استأثرت لنفسي بالحديث عن جمال نهر يتدفق منذ آلاف السنين، يقطع آلاف الأميال من وسط إفريقيا حتي يصب في بحر مصر، إنه نهر النيل الذي أسكن بجواره ويسكن هو قلبي، وأراه رمزا من رموزالجمال والخير والنماء لكل ما يعيش في واديه الرحب، فوديانه وجداوله وقنواته وتفريعات تتمدد عبر مدن دلتا مصر حتي يمر بمنطقة سكناي بالقاهرة ليطل علينا بهيا صافيا، ولعلي لا أبالغ إذا قلت أني اسمعه يتغني بحبه لمصر والمصريين ولكل من يطل عليه ويعيش علي ضفافة، فقال فيه المؤرخ اليوناني هيرودوت، "يتمتع المصريون في الحياة بمشفي طبيعي، تربة نقية وجو متجانس" يقصد النهر ومياهه العذبة الذي مد المصريين بقوتهم وغذائهم وقمحهم وشعيرهم وأرزهم وبردياتهم وزهرة اللوتس رمز حياتهم الفرعونية، فالنيل هو الجمال بعينه، حتي قيل ان الملكة كليوباترة تجملت بطميه، فنيل مصر لون حياة شعبها وأشعل خيال شعرائهم الذين تغزلوا في مياهه وصفائه ولونه الذهبي وقت الغروب، هذا الصفاء الذي منح المصريين روحا معنوية وخصوبة لا تنضب، فالنيل جمل حياة هذا الشعب ومنحهم طاقة يتفاخرون بها علي مر العصور، فكان عنوانا للحب والجمال والحياة. فالنيل هوعنوان مصر بجانب الأهرامات، فشواطئه وأشجاره علي مدي مساحاتها المترامية تزين جانبيه مما رسخ علاقة أبدية بينه وبين الإنسان.. ويكفي لناظري النيل أن يستمتعوا بليل القاهرة الساحرة الرابضة علي هذا النهر الخالد.
وختاما لجلسة الجمال، فإن جمال العقل يرتبط بالفكر وجمال الروح يترافق مع الشكر..وجمال اللسان هو الصمت.. وجمال القلب يكون دائما بذكر الله.. وجمال الكلام بالصدق، والجمال هو ابتسامة الحياة عندما نستبشر بها، لأن الجمال الحقيقي هو جمال الوجود الذي يشرح صدورنا، ولهذا فالجمال حولنا في كل مكان ما حيينا، ولكنه مرهون برؤيتنا له ومدي استشعارنا به، فالجمال نجده في حلو الكلام أي الألسنة، وفي القلوب والأعين والمعاملة الحسنة، فالدين المعاملة، ونجده في ابتسامة طفل يري الحياة مشرقة ويجعلنا نشعر معه بنفس إحساسه بالحياة، فالمطلوب من الإنسان أن يكون جميلا كي يري ما حوله جميل في هذا الكون، وأن نحب الجمال في الآخرين حتي يروا هم ما بداخلنا من جمال، فجمال الحياة أن نراها بقلوبنا.
وعلي سبيل المثال، نعلم أن الفجر عندما يبزغ علي الدنيا يبدأ اليوم في الإشراق وتكون أشعة الشمس علي أهبة الانتشار لتضئ لنا الكون، فالفجر إذن جميل لأنه يشعرنا بجمال اليوم الآتي إلينا توا، ومن جمال الفجر أنه يأتي بعد ليل دامس الظلام أو علي الأقل شبه ظالم إذا لم تكن لياليه قمرية، والفجر هنا هو النور الذي يأتينا من بعيد ونتظره ليأتي إلينا بخيراته وحبه وإشراقاته، فالزهور تتلألأ فجرا والندي يتساقط فجرا، فالفجر يطل علينا بالفرح والسرور والسعادة والابتسامة، ندركه بضوء وفرح في قلوبنا.. ويكفي القول إن كل جماليات الحياة حولنا لا تساوي شيئا ما لم تكن نظرتنا لها جميلة. ولعل من الجمال ألا نجرح أحد بالكلام حتي لو اعتذرنا لاحقا، لأن الكلمة الخبيثة ستبقي ندوبها مرسومة في الذاكرة حتي لو اعتذرنا.