في حين يتصور المواطن البسيط أن الدولة تعاقبه بزيادة أسعار المواد البترولية، وفي حين يتجرع في مرارة فاتورة الإصلاحات الاقتصادية؛ لا يدرك هذا المواطن أن ما يحدث هو الضمانة الوحيدة لعدم انهيار الدولة وإفلاسها، ولو علم حقيقة الأمر ربما لقدم وافر الشكر على اتباع هذه الإجراءات التقشفية التي يشكو منها، التي وإن كان ظاهرها العذاب ففي باطنها الرحمة، وقد يكون هذا المواطن معذورا إذ إن رؤيته لمستقبل الدولة محدودة بمصلحته وحاجاته ورغباته، وهي أمور لا ينكرها أحد، لكن هل هناك بالفعل إمكانية لتحقيقها بالشكل الذي يرضي هذا المواطن، أم أن ثمة ظروف ملحة جعلت الدولة مضطرة لاتخاذ هذه الخيارات الصعبة؟
أظهرت أرقام وزارة البترول بشأن تكلفة دعم الطاقة، التي تتحملها الدولة، طبقًا لأسعار خام برنت، الذي استقر عند 75 دولار للبرميل، ثقبا أسودا في الموازنة العامة، إذ بلغت تكلفة دعم الطاقة (البوتجاز، بنزين 92، بنزين 80، السولار، والمازوت) التي تستوردها الدولة بالأسعار العالمية، مبلغ 103.798 مليار جنيه، وهي القيمة التي أصبحت تمثل بحق ثقبا أسودا في جسد الاقتصاد المصري؛ يلتهم أي جهود تنمية واستثمارات بل وحتى ترشيد النفقات الحكومية، تماما كما تلتهم الثقوب السوداء في الفضاء الكواكب والنيازك والنجوم العملاقة وتذيبها في ثوان.
هذا المبلغ المفزع الذي تتحمله موازنة الدولة، المخصصة للإنفاق في كافة القطاعات من الصحة والتعليم والطرق والرياضة.. الخ، لم يأت نتيجة سياسات حكومية، بل كان نتيجة تغير أسعار النفط عالميا، المرتبطة بديهيا بالدولار، فقد كانت الحكومة قد وفقت أوضاعها على استقرار سعر النفط بين 60 و67 دولار للبرميل على أقصى تقدير، لكن ونتيجة تغير الأسعار العالمية للنفط، لم تأت الرياح بما تشتهيه السفن، إذ ارتفع البرميل ليسجل قبل أيام مبلغ 80 دولارا قبل أن ينخفض مجددا إلا 78 دولار، على النحو الذي لم يكن متوقعا؟
هنا كانت الخيارات محدودة، مع تغير الظروف العالمية وارتفاع أسعار النفط بهذه الطريقة المفاجئة، فالخيار كان بين استمرار دعم المحروقات، ومن ثم ترك الثقب الأسود ينهش في جسد الاقتصاد المصري والتهام أي فائض تنمية، أو اتخاذ إجراءات عاجلة وحرجة، تماما كما يفعل الطبيب حين يلجأ للتدخل الجراحي، حفاظا على حياة المريض، بما يؤدي في النهاية إلى حماية الأمن القومي المصري، الذي يُعتبر اقتصاد الدولة أحد أهم أهدافه؟
لا شك أن الاستمرار في سياسة تحمل الموازنة العامة لهذا المبلغ المفزع الذي يتجاوز المائة مليار جنيه، هو خيار يرضي المواطن، إلا أنه بعد سنوات قليلة لن يجد هذا المواطن أي أثر للتنمية، لا على المستوى القريب المتعلق بمستقبل الجيل الحالي، ولا حتى على المستوى البعيد المتعلق بالأجيال المقبلة، فاستمرار الثقب الأسود في الموازنة لا يعني إلا أمرا واحدا هو أن مستقبل الأجيال المقبلة سيكون في خطر، ولن يحدث أي تقدم على أي صعيد طالما كان هذا الثقب الأسود يلتهم أي جهود للتنمية؟
***
لماذا ساوت الإجراءات التقشفية بين بنزين الأثرياء "92، و59" وسولار الفقراء؟ ألم يكن من الأفضل استثناء السولار من رفع الدعم، على الأقل من جانب الإحساس بالفقراء وعدم المساواة بينهم وبين الأثرياء؟
هذه الأسئلة دائما ما تدور في عقل المواطن، والإجابة هي أنه طالما كانت هناك استثناءات ستكون هناك سوق سوداء، وطالما كانت هناك سوق سوداء طالما كان الاقتصاد معرضا لثقوب سوداء جديدة تنهش في جسده، ولا تتركه إلا جثة هامدة، وتاريخيا لم يكن مسلسل الدعم إلا وسيلة لسرقة المال العام، وربما كان الوهن الحاصل في الاقتصاد المصري سببه الرئيسي اتباع سياسة الدعم غير المحددة بإجراءات تضمن وصوله لمستحقيه، فربما كان من السهل التحكم في منظومة دعم المواد التموينية والمنتجات الغذائية من خلال المنافذ الحكومية والجمعيات الاستهلاكية، لكن كيف ندعم الطاقة وهي سلعة يتم تداولها من خلال القطاع الخاص، ومن السهل جدا خلق سوق سوداء لها؟
وبالعودة لأرقام وزارة البترول الخاصة بدعم المحروقات سنجد أن الدولة تدعم بنزين 95 بـ1.9 جنيه فقط، وبنزين 92 تدعمه الدولة فقط بـ2.5 جنيه، بينما يصل دعم السولار إلى 4.35 جنيه، واسطوانة البوتاجاز تدعمها الدولة بملغ 125 جنيها، بعد أن أصبح سعرها العالمي 155 جنيها في حين توفرها الدولة بمبلغ 30 جنيها، ما يعني أن الدولة راعت الفقراء عند اتخاذ قرار رفع سعر المحروقات.
اليوم، وفي ظل اتجاه الدولة لإنشاء العديد من المشروعات القومية العملاقة، تزامنا مع اتباع سياسة الشفافية التي بدأها الرئيس بمصارحة الشعب منذ أول يوم بحقيقة الأوضاع الاقتصادية قبل الأمنية، والداخلية قبل الخارجية، لم يعد من الممكن ترك أي شي للصدفة، فاستمرار سياسة الدعم غير المحددة بضمانات معناه إيجاد أرض جديدة للفساد، سواء في عودة السوق السوداء أو السماح لسماسرة القطاع الخاص بالتلاعب بقوت الشعب، وهو الأمر الذي أصبح من الصعب وجوده في ظل الإصلاحات الاقتصادية وإنقاذ مستقبل الأجيال المقبلة في دولة، عانت الكثير خلال السنوات الماضية، وووصل عدد سكانها 100 مليون نسمة وهو رقم جد مفزع مع تصور استمرار سياسة الدعم للجميع.
***
هل تذكرون تجربة تركيا الاقتصادية، وكيف حققت معدلات تنمية غير مسبوقة لدرجة أنها أصبحت حديث "الإخوان الإرهابية" في وجوب الاقتداء بخططها الاقتصادية والسير على نهجها؟
الآن فقط انكشفت حقيقة تركيا وانكشفت حقيقة نهضتها المزعومة، وتبين أن ما حسبناه نهضة لم يكن أكثر من فقاعة اقتصادية، لم تدم لأكثر من سنوات، لتقف البلاد اليوم على شفا الإفلاس، بعد انهيار الليرة التركية أمام الدولار والحديث عن دخول البلاد أزمة اقتصادية جديدة؟ لكن ما علاقة ما حدث في تركيا برفع سعر الطاقة في مصر؟
الإجابة أن الصلة وثيقة، فالطريق الذي بدأه الرئيس التركي رجب طيب أردوغان قبل سنوات، وعمل على تحقيق طفرة في الاقتصاد التركي انعكست على المواطن، لم تكن إلا نتيجة فتح "أردوغان" المجال أمام القروض الخارجية دون حساب أو مسؤولية، وليس الوقوف عند الحد الآمن للاستدانة، وأيضا بيع القطاع العام كله، ونتيجة هذه التدفقات الدولارية حدث انتعاش اقتصادي مؤقت، وحدث النمو الذي صدروه على أنه طفرة أو نهضة اقتصادية، لكن النتيجة الحقيقة لما حدث، التي لم يتوقعها المواطن التركي، الذي رحب بالانتعاش الاقتصادي، هو أن العجز في ميزان المدفوعات في تركيا تخطى حاجز الـ47 مليار دولار سنويا، والنتيجة هي أن الدولة التي لجأت للاقتراض وبيع القطاع العام، لتحقيق مكاسب سياسية تضمن بقاء "أردوغان" وحزبه في الحكم، لن تتمكن من سداد مديونياتها، وفي هذه الحالة لن يكون أمامها إلا أمر من اثنين إما أن تشهر إفلاسها أو أن تفقد استقلالها الوطني وتصير دولة تابعة للدائنين، وفي كلا الأحوال سيفقد المواطن التركي كل المزايا التي حصل عليها خلال السنوات الماضية.
أما في الحالة المصرية، فلم يكن أسهل من الحصول على القروض وعدم تحميل المواطن فاتورة ارتفاع أسعار النفط عالميا، لكن بعد سنوات قليلة كنا سنواجه المصير نفسه الذي تواجهه تركيا هذه الأيام، وهو الأمر الذي يثبت وطنية السيد الرئيس عبد الفتاح السيسي، فالرجل الذي سيغادر مقعد الرئاسة بعد 4 سنوات لم يكن أسهل عليه من اتباع نهج أردوغان، وهو الأمر الذي كان سيجعل شعبيته تصل عنان السماء، لكنه بدلا من ذلك اتبع الطريق الصعب، متحملا تصاعد الغضب الشعبي بسبب رفع سعر الطاقة، وشعاره في ذلك "إنما الصبر ساعة" وعندما تنتهي الساعة سيعرف المواطن أن هذا الخيار هو من حمى مصر والأجيال الحالية والقادمة من خطر الإفلاس والانهيار أو التبعية والتلاشي، نعم لقد حمى مصر من الثقب الأسود.