الدومبرا: رمز النغم الكازاخي عبر العصور
الإثنين 07/يوليو/2025 - 12:14 ص

فاطمة بدوي
طباعة
تعزف الدومبرا سيمفونية الحياة البدوية
في قلب السهوب الكازاخستانية الشاسعة، حيث تلتقي الرياح بأنغام التاريخ،
هذه الآلة الموسيقية ثنائية الوتر ليست مجرد أداة للعزف، بل هي راوية القصص، حارسة التراث، ومرآة تعكس روح شعب كازاخستان. في يوم الدومبرا، الذي يُحتفل به في أول أحد من يوليو، تحتفي الأمة بهذا الكنز الثقافي عبر مهرجانات موسيقية وفعاليات نابضة بالحياة. دعونا نغوص في عالم الدومبرا، لنكتشف سحرها وتأثيرها العميق على الثقافة الكازاخستانية.
حيث تعود أصول الدومبرا إلى قرون مضت، حيث كانت رفيقة البدو الرحل في رحلاتهم عبر السهوب الشاسعة. تُصنع الدومبرا تقليديًا من الخشب، مثل خشب القيقب أو الصنوبر، وتتميز بجسمها البيضاوي أو المثلث وذراعها الطويلة الرفيعة. الوتران، اللذان كانا في الأصل مصنوعين من أمعاء الحيوانات واليوم من النايلون أو المعدن، يمنحان الدومبرا صوتًا فريدًا يتراوح بين العميق الشجي والحيوي الرنان. كانت هذه الآلة تُستخدم لمرافقة "الأكين" (الشعراء الجوالين) الذين يروون الملاحم البطولية والأساطير الشعبية، مما جعلها رمزًا للهوية الكازاخستانية.
الدومبرا ليست مجرد آلة موسيقية، بل هي لغة تعبيرية تحمل في طياتها مشاعر الأمة. كل نغمة تُعزف على أوتارها تحكي قصة: قصص الحب العاطفية، الأناشيد البطولية، أو حتى الألحان التي تُمجّد جمال الطبيعة. تُعرف الألحان التقليدية التي تُعزف على الدومبرا باسم "كوي"، وهي قطع موسيقية تعكس مشاهد من الحياة اليومية أو الأحداث التاريخية. على سبيل المثال، قد يصور "كوي" صوت حوافر الخيول في السهوب أو همسات الرياح عبر الجبال. هذه الألحان ليست مجرد موسيقى، بل هي جسر يربط الأجيال، ينقل الحكمة والقيم من الماضي إلى الحاضر.
في عام 2018، أعلن الرئيس الكازاخي السابق نورسلطان نزارباييف أول أحد من يوليو يومًا وطنيًا للدومبرا، تكريمًا لهذه الآلة كرمز للوحدة الوطنية. في هذا اليوم، تنبض مدن كازاخستان وقراها بالحياة مع عروض موسيقية مبهرة، حيث يجتمع العازفون المحترفون والهواة لتقديم أداءات تعكس تنوع الثقافة الكازاخستانية. تشمل الفعاليات مسابقات عزف، ورش عمل لتعليم صناعة الدومبرا، وعروضًا فلكلورية تسلط الضوء على التراث الشعبي. كما تُنظم مهرجانات ضخمة، مثل مهرجان "دومبرا-داستان"، حيث يتجمع آلاف الأشخاص للاحتفال بهذا الإرث العريق.
وتتطلب صناعة الدومبرا مهارة عالية وصبرًا كبيرًا. يختار الحرفيون الأخشاب بعناية لضمان جودة الصوت، ويتم تهيئة كل جزء يدويًا بدقة متناهية. تختلف أشكال الدومبرا باختلاف المناطق في كازاخستان؛ ففي الغرب، تكون أكثر استطالة، بينما تتميز في الشرق بجسم أعرض يعطي صوتًا أعمق. هذا التنوع يعكس الغنى الثقافي للبلاد، حيث تتكيف الدومبرا مع خصوصيات كل منطقة.
وفي السنوات الأخيرة، شهدت كازاخستان نهضة ثقافية بين الشباب الذين يعيدون اكتشاف الدومبرا. بفضل المدارس الموسيقية والمبادرات الحكومية، يتعلم الآلاف من الشباب عزف الدومبرا، مضيفين إليها لمسات عصرية. بعض العازفين الشباب يدمجون الدومبرا مع أنواع موسيقية حديثة مثل الروك والجاز، مما يخلق توليفة فنية تجمع بين الأصالة والحداثة. هذا الاندماج لا يحافظ على التراث فحسب، بل يجعل الدومبرا جسرًا بين الماضي والمستقبل.
لم تقتصر شهرة الدومبرا على حدود كازاخستان، بل تجاوزتها لتصبح رمزًا عالميًا للثقافة الكازاخستانية. فقد تم إدراج الدومبرا وفن "الكوي" في قائمة اليونسكو للتراث الثقافي غير المادي عام 2014، تقديرًا لأهميتها الثقافية. كما يشارك عازفو الدومبرا في مهرجانات دولية، حاملين أنغام السهوب إلى مسارح العالم، من باريس إلى طوكيو.
الدومبرا ليست مجرد آلة موسيقية، بل هي نبض كازاخستان الثقافي. مع كل عزفة، تحيي الدومبرا تاريخًا عريقًا، وتحمل أحلام شعب عاش في انسجام مع الطبيعة والتاريخ. يوم الدومبرا ليس مجرد احتفال، بل هو تذكير بأهمية الحفاظ على الإرث الثقافي في عالم متغير. فما الذي يمكن أن يكون أجمل من أنغام تحكي قصة أمة عبر أوتار بسيطة لكنها عميقة