جدل ثقافي مصري وعالمي حول "مسارات الليبرالية الجديدة ومصيرها"
الأربعاء 07/سبتمبر/2016 - 10:24 ص
تثير"الليبرالية الجديدة" كفلسفة سياسية، واقتصادية جدلا ثقافيا واسع النطاق سواء في مصر أو دول أخرى في العالم، وخاصة في الغرب، وهو جدل غير بعيد عن قضايا موضع اهتمام بالغ من المثقفين في مصر، والعالم قاطبة مثل قضايا الديمقراطية، والعدالة الاجتماعية، والمساواة.
وعلى امتداد العالم ثمة نقاشات ثقافية جادة حول (تصويب مسارات الليبرالية الجديدة، وأهمية تدخل الدولة لضمان انضباط السوق، والحيلولة دون انتهاك مبادىء العدالة الاجتماعية) فيما كان الكاتب، والمفكر السيد ياسين قد رأى" إننا نحتاج إلى إبداع سياسي لكي نرتاد بخيال خلاق عالم ديمقراطية المشاركة الكفيلة بتصحيح العيوب الأساسية في بنية الديمقراطية النيابية التقليدية".
واعتبر الكاتب، والمحلل الدكتور محمد السعيد إدريس أن سياسات النظام الرأسمالي تفضي إلى تدمير القيم الديمقراطية التي من المفترض أن تكون الديمقراطية قد قامت من اجل تحقيقها فيما يدعو لإقامة "الدولة الديمقراطية الاجتماعية"، وهي مسألة متصلة بالسياسة الثقافية على نحو أو آخر.
وكانت الدكتور أمل الصبان الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة قد أوضحت تصورها حول السياسة الثقافية في مصر خلال الفترة المقبلة فقالت ـ في مقابلة صحفية مع صحيفة (الأهرام)" نسعى إلى تجديد الخطاب الثقافي الذي يتبنى نبذ العنف، والتطرف، وكل أنواع العداء، والكراهية" مؤكدة أهمية "مفاهيم التسامح والحوار مع الآخر وقبوله والعيش معه".
والديمقراطية بمفاهيمها الأساسية، وتطبيقاتها المعاصرة في الغرب هي جزء لا يتجزأ من المذهب الليبرالي الذي يقوم على فلسفة الحرية والإعلاء من قيمها على المستويات كافة ورغم الإنجازات غير المنكورة لهذا المذهب في الحياة الإنسانية فان ثمة شعورا عاما حتى في الغرب بأن ما يعرف بالليبرالية الجديدة أو التطرف في سياسات السوق الحرة والاحتكام لآليات السوق وحدها أفضى لإشكاليات خطيرة، وخاصة فيما يتعلق بمفاهيم العدالة الاجتماعية.
وفي ظل هذا الشعور توالت وتتوالى الدعوات من منابر ووسائط ثقافية متعددة في الغرب، والشرق لإجراء مراجعات عميقة "لمفاهيم الليبرالية الجديدة"، ومواجهة الخلل في ممارساتها خاصة بعد أن أظهرت الأزمة المالية، والاقتصادية العالمية منذ نحو ثماني سنوات والتي كانت بؤرتها في الولايات المتحدة أن الليبرالية الجديدة، والإفراط في مفاهيم السوق الحرة بعيدا عن أي تدخل للدولة لا تشكل النموذج الأمثل للاستقرار، والازدهار.
وهكذا ظهرت طروحات مضادة لليبرالية الجديدة، وتوحش آليات السوق وها هو جورج مونبيوت يقول في طرح جديد بعنوان دال :"الليبرالية الجديدة..الأيديولوجية في أصل كل مشاكلنا" إن هذه الفلسفة الرأسمالية المتطرفة مسؤولة عن العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والبيئية في العالم بل انها "تخرج من البشر اسوأ مابداخلهم".
فالليبرالية الجديدة كما يؤكد البريطاني جورج مونبيوت في طرحه بجريدة الجارديان مسؤولة عن الأزمة المالية، والاقتصادية العالمية الأخيرة، والانهيارات في منظومات التعليم، والصحة، والبيئة، واستفحال الفقر، وحتى عمالة الأطفال، وتزايد شعور الإنسان المعاصر بالعزلة، والوحدة الموحشة معتبرا ان مقولة اساسية من مقولات هذه الفلسفة وهي :"السوق تضمن ان يحصل كل شخص على مايستحقه" ليست بالمقولة التي تضمن العدالة للجميع.
ولئن كانت هذه المقولة غير بعيدة عن النظرية الداروينية الشهيرة في النشوء والارتقاء ومقولة داروين او قانونه البيولوجي :"البقاء للأصلح" فان جورج مونبيوت يختلف معها بشدة ويرفض "خصخصة الخدمات العامة" معبرا بذلك عن تيار له ثقله بين المثقفين في الغرب.
وقبل هذا الطرح انبرى مثقفون بارزون في الغرب مثل الكندية ناعومي كلاين لتتحدث عن "مبدأ الصدمة، و"رأسمالية الكوارث" وتندد بأفكار المدرسة القائدة لليبرالية الجديدة والمعروفة "بمدرسة شيكاغو" والتي دانت بالولاء للراحل ميلتون فريدمان "فيلسوف النيو ليبرالية" .
ولئن كان ميلتون فريدمان قد اشتهر بمقولة :"في الأزمات والصدمات يمكن احداث تغييرات حقيقية" فان ناعومي كلاين ترى ان هذه التغييرات انما تستغل الكوارث والشدائد لصالح شرائح رأسمالية لا تعنيها مصالح الجماهير او آلام الشعوب.
واذا كانت التفرقة واجبة بين "الليبرالية" و"الليبرالية الجديدة" فمن حين لآخر تشهد مصر ودول عربية اخرى ملتقيات وندوات حول تحديات الليبرالية وقضاياها في العالم العربي فيما رأى المحلل السياسي والكاتب الدكتور أسامة الغزالي حرب أن الأحزاب الليبرالية عليها ان تكون مدرسة للمواطنة وغرس قيم الحرية والمساواة واحترام الآخرين وعدم التمييز.
وتؤشر بعض الكتابات والندوات والأنشطة الثقافية-السياسية الى ان هناك التباسات وحالة من سوء الفهم في الشارع المصري والعربي على وجه العموم لليبرالية وبصورة تستدعي جهدا ثقافيا لتوضيح مصطلح "الليبرالية" وتبسيطه بعيدا عن "التباسات الليبرالية الجديدة" التي باتت تقترن بمفاهيم وتصورات سلبية مثل التوحش الرأسمالي.
ومع ان بعض المثقفين المصريين يؤكدون أن المجتمع المصري "ليبرالي بالفطرة كما هو متدين بالفطرة وانه لاتعارض بين الليبرالية والدين" فان بعض جوانب ازمة الليبرالية المصرية في الواقع الراهن تكاد لا تختلف عن "زمن ابو الليبرالية المصرية احمد لطفي السيد" الذي خسر معركة انتخابية بسبب التصورات الخاطئة في المخيال الشعبي لليبرالية والديمقراطية والتي قد يغذيها البعض عمدا لتحقيق مكاسب سياسية .
ويبدو ان الأزمة تتعلق بإشكالية مصرية -عربية أوسع نطاقا حيث يؤكد صوت مؤثر من أصوات الجماعة الثقافية المصرية هو أستاذ الاقتصاد الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى أهمية "تجاوز آفات التكوين العضوي للنخبة السياسية، والثقافية المصرية التي برهنت على إخفاق تاريخي مزمن".
وانعكس هذا الإخفاق - كما يقول الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى - على مسار الحركة الوطنية، والقومية "فإذا بها غير قادرة على مواصلة السير عبر الزمن لتحقيق الأهداف بعيدة المدى للمجتمع العربي في إطاره العالمي الراهن لذا تبدو البلاد، وكأنها تسير في حلقة مفرغة بفعل المحتوى الفارغ لنخبة عاجزة تدور حول نفسها بلا انقطاع تقريبا على اختلاف تلويناتها السياسية".
ويمضي عيسى في هجومه على هذه النخب فيصفها بأنها "قصيرة النفس، سريعة الغضب، مجوفة فكريا وسياسيا, لا تقارب شأنه مهما من شؤون البلاد والعباد الا ونشرت سحب اليأس المطبق من حوله ثم تعثرت لتجر الجماهير الغفيرة من خلفها نحو ضياع جديد".
وهكذا يقول :"إننا في انتظار فجر جديد ونخبة جديدة حقا ونمط قيادي غير مسبوق" فيما يرى ان "الشباب الليبرالي الذي تصدر جانبا من مشهد ثورة 25 يناير هو تعبير عن "جيل جديد على المستوى العالمي تقاذفته عواصف العولمة ذات المنحى الغربي".
غير أن هذا الجيل في مصر كما يراه الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى لم يتعرض للتنشئة السياسية من أي نوع بسبب حالة الفراغ السياسي، والحزبي القاحل في ظل أنظمة سابقة.
وأضاف إن هذا الجيل الجديد "يتعرض لغواية وإغراء السياسة المعولمة" انطلاقا من الغرب "وتشاء المقادير ان تضع حديث الحريات في تقابل متعاكس مع حديث الدولة الوطنية وفي وجه عواصف مدمرة احاطت بالدولة في مصر وفي جوارها اللصيق من الاقليم العربي العتيد".
واذا كانت الكاتبة والمحللة السياسية الدكتورة هالة مصطفى قد ذهبت في معرض المقارنة بين الأحزاب في مصر، والغرب، وظروف نشأتها إلى أن الديمقراطية الغربية "لم تكن نتاجا تلقائيا للتعددية الحزبية بقدر ما كانت نتاجا لتعميق القيم والثقافة الديمقراطية وانتشار الثقافة العقلانية" فإن ثمة حاجة لتأمل نماذج تاريخية بغرض استلهام ما قد يفيد في إحياء الليبرالية المصرية، والتمييز بين "الليبرالية"، و"الليبرالية الجديدة"، ولعل من أكثر هذه النماذج أهمية نموذج أحمد لطفي السيد.
وأحمد لطفي السيد الذي يوصف بأنه "ابو الليبرالية المصرية" ولد في الخامس عشر من يناير عام 1872 وقضي في الخامس من مارس عام 1963 كان في فكرته "افلاطونيا" بجميع معاني هذه الكلمة بتعبير المفكر المصري العملاق عباس محمود العقاد.
ومن معانيها كما يوضح العقاد "ان الرجل العام ينبغي ان يعيش للمصلحة العامة تطوعا وحسبة بغير جزاء والا يشتغل بخاصة اموره الشخصية لأن الدولة التي يتجرد لخدمتها هي التي تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة وليس له بعد ذلك حق في وقته الخاص لغير القيام بحقوقها".
وهذا هو دستور الحكم الأفلاطوني كما شرحه الفيلسوف اليوناني في كتابه الموسوم باسم "الجمهورية"، وقد اشتهر في العالم القديم والعالم الحديث باسم "جمهورية أفلاطون" فيما كان فقيه القانون، والأديب عبد العزيز فهمي، وهو من أقدم زملاء وأصدقاء أحمد لطفي السيد يداعبه كثيرا من هذه الناحية.
فيقول كلما خالفه في رأي من ارائه الفلسفية او اللغوية :"انك يالطفي تفكر للكون كله ولا يعنيك امر الزمن القريب ولا أمر هذه الخلائق الفانية" وكان امتع ألوان الحديث بين الرجلين الكبيرين تلك التي تجري بينهما في السيارة اثناء الطريق من مقر مجمع اللغة العربية الشهير "بمجمع الخالدين" الى حي مصر الجديدة حيث يقيمان.
كان احمد لطفي السيد يعيش فعلا على وفاق هذا الدستور الأفلاطوني وكان قد عهد من زمن بعيد في زراعة ارضه وتثميرها الى بعض اقربائه ولا يتعرض لتفصيلات حسابها مكتفيا بما يقدمه وكيله عليها من حساب مجمل عن غلاتها ونفقاتها.
وكانت طريقته في تدبير نفقات البيت كطريقته في تدبير حساب ضيعته وهي الضيعة التي ابى ان يملكها كلها حين اراد ابوه ان يختصه منها بخمسمائة فدان لا تدخل في تقسيم الميراث بينه وبين إخوته فأبى ذلك ولم يقبل من الميراث غير حصته التي يستحقها مع سائر الورثة على سنة المساواة.
واحمد لطفي السيد كان ينظر للمسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة واسعة توشك ان تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف ولكنه كان من اشد المفكرين اعتماما بما يعتقد فيه الخير والصلاح وهو على ايمانه بعقائده العقلية والخلقية لايرى من المستحيل ان يكون لغيره الحق في ايمان كهذا الايمان.
ويقول عباس محمود العقاد في سياق تناوله لشخصية احمد لطفي السيد :"لاأذكر مرة واحدة في نحو عشرين سنة قضيناها معه بمجمع اللغة العربية انه حاول بالتصريح او التلميح ان يؤثر في اتجاه المناقشة او يقاطع صاحب رأي يعارضه وينفر منه".
تلك السماحة الواسعة في تقدير وجوه الخلاف جعلته مرجعا للمشورة الصادقة بين اصدقائه وتلاميذه من المشتغلين بالحكم والقائمين بأعمال الوزارات فقد كان يمحص الرأي من جميع جوانبه، ويوازن لهم بين جميع احتمالاته، ويتركهم احرارا فيما يختارون.
السماحة الخلقية تشارك هذه السماحة الفكرية في المسلك الديمقراطي لأحمد لطفي السيد بين الناس وبين المعتقدات..فلم يكن في طبعه ان يصادم احدا او يصطنع في الخصومة قسوة ولددا ولكنه يثبت في مكانه ويترك لمن يخالفه ان يصطدم به اذا شاء.
وقصة سقوط احمد لطفي السيد في انتخابات الجمعية التشريعية احدى اعاجيب الدعاية الانتخابية التي تعرض لها من جراء المناداة بالحقوق الديمقراطية اذ كان منافسه "الريفي الماكر" يشيع عنه انه يطلب للمرأة الحق في الجمع بين ازواج اربعة لأنه يطلب لها المساواة الديمقراطية وعندما يسأله الناخبون :"هل انت حقا من طلاب الديمقراطية"؟! يجيبهم بالتأكيد!.
وقد تلقى احمد لطفي السيد هذه الخسارة في المعركة الانتخابية بصبر الحكماء وفكاهة العظة والاعتبار وهو لايخفي اعجابه بذلك "الريفي الماكر" الذي غلبه باسم الديمقراطية وهذه الديمقراطية التي نادى بها احمد لطفي السيد فكرة وقولا عاش لها وعاش بها وكانت هي الطابع الذي طبع عليه بمزاجه قبل ان يطبع عليه بتفكيره ودراسته وكان بحق "ارستقراطيا بالشكل وديمقراطيا بالموضوع" .
كان هذا الرجل الممتاز بشخصيته وخلقه "فكرة في حياة" أو "حياة ملكتها الفكرة" في خاصة شأنه وعامة عمله وقوله حتى إن العقاد في تقييمه لهذا الليبرالي المصري العظيم وضعه بين مفكري العصور كرجل ديمقراطي المبدأ في تفكيره، وسياسته، ودعوته الوطنية.
وقال عنه " إنه في عصرنا هذا زميل عربي لأرسطو اليوناني تجدد مع الزمن في مدرسة الثورة الفرنسية..مدرسة فولتير وروسو ومونتسكيو وعاش بعدهم فتقبل من حكمة العصر ما كانوا يتنزلون إلى قبوله من حكمة القرن العشرين ولكنه لم يزل بعد منتصف هذا القرن على نمطه السلفي الافلاطوني فكرا في اهاب انسان".
واذا كانت "الليبرالية الجديدة" قد فشلت كما يرى مثقف بريطاني كبير مثل جورج مونوبيوت فان السؤال الطبيعي يكون عن البديل لهذه الفلسفة الاقتصادية والسياسية التي سادت منذ صعود مارجريت تاتشر ورونالد ريجان لسدة الحكم في بريطانيا والولايات المتحدة ولعل مصر الكبيرة بمثقفيها قادرة على الاسهام في الاجابة على هذا السؤال.. ولعل روح احد الآباء الثقافيين المصريين وقد اقترن اسمه بالليبرالية والحريات وهو احمد لطفي السيد تبارك هذا الاسهام لعالم يبحث عن "طعم الترياق وبراءة الليبرالية الأولى"!..العالم بحاجة لفلسفة للحرية تختلف عن "الليبرالية الجديدة" التي حولت الكرة الأرضية لتضاريس كآبة !!.
وعلى امتداد العالم ثمة نقاشات ثقافية جادة حول (تصويب مسارات الليبرالية الجديدة، وأهمية تدخل الدولة لضمان انضباط السوق، والحيلولة دون انتهاك مبادىء العدالة الاجتماعية) فيما كان الكاتب، والمفكر السيد ياسين قد رأى" إننا نحتاج إلى إبداع سياسي لكي نرتاد بخيال خلاق عالم ديمقراطية المشاركة الكفيلة بتصحيح العيوب الأساسية في بنية الديمقراطية النيابية التقليدية".
واعتبر الكاتب، والمحلل الدكتور محمد السعيد إدريس أن سياسات النظام الرأسمالي تفضي إلى تدمير القيم الديمقراطية التي من المفترض أن تكون الديمقراطية قد قامت من اجل تحقيقها فيما يدعو لإقامة "الدولة الديمقراطية الاجتماعية"، وهي مسألة متصلة بالسياسة الثقافية على نحو أو آخر.
وكانت الدكتور أمل الصبان الأمين العام للمجلس الأعلى للثقافة قد أوضحت تصورها حول السياسة الثقافية في مصر خلال الفترة المقبلة فقالت ـ في مقابلة صحفية مع صحيفة (الأهرام)" نسعى إلى تجديد الخطاب الثقافي الذي يتبنى نبذ العنف، والتطرف، وكل أنواع العداء، والكراهية" مؤكدة أهمية "مفاهيم التسامح والحوار مع الآخر وقبوله والعيش معه".
والديمقراطية بمفاهيمها الأساسية، وتطبيقاتها المعاصرة في الغرب هي جزء لا يتجزأ من المذهب الليبرالي الذي يقوم على فلسفة الحرية والإعلاء من قيمها على المستويات كافة ورغم الإنجازات غير المنكورة لهذا المذهب في الحياة الإنسانية فان ثمة شعورا عاما حتى في الغرب بأن ما يعرف بالليبرالية الجديدة أو التطرف في سياسات السوق الحرة والاحتكام لآليات السوق وحدها أفضى لإشكاليات خطيرة، وخاصة فيما يتعلق بمفاهيم العدالة الاجتماعية.
وفي ظل هذا الشعور توالت وتتوالى الدعوات من منابر ووسائط ثقافية متعددة في الغرب، والشرق لإجراء مراجعات عميقة "لمفاهيم الليبرالية الجديدة"، ومواجهة الخلل في ممارساتها خاصة بعد أن أظهرت الأزمة المالية، والاقتصادية العالمية منذ نحو ثماني سنوات والتي كانت بؤرتها في الولايات المتحدة أن الليبرالية الجديدة، والإفراط في مفاهيم السوق الحرة بعيدا عن أي تدخل للدولة لا تشكل النموذج الأمثل للاستقرار، والازدهار.
وهكذا ظهرت طروحات مضادة لليبرالية الجديدة، وتوحش آليات السوق وها هو جورج مونبيوت يقول في طرح جديد بعنوان دال :"الليبرالية الجديدة..الأيديولوجية في أصل كل مشاكلنا" إن هذه الفلسفة الرأسمالية المتطرفة مسؤولة عن العديد من المشاكل الاقتصادية والسياسية والبيئية في العالم بل انها "تخرج من البشر اسوأ مابداخلهم".
فالليبرالية الجديدة كما يؤكد البريطاني جورج مونبيوت في طرحه بجريدة الجارديان مسؤولة عن الأزمة المالية، والاقتصادية العالمية الأخيرة، والانهيارات في منظومات التعليم، والصحة، والبيئة، واستفحال الفقر، وحتى عمالة الأطفال، وتزايد شعور الإنسان المعاصر بالعزلة، والوحدة الموحشة معتبرا ان مقولة اساسية من مقولات هذه الفلسفة وهي :"السوق تضمن ان يحصل كل شخص على مايستحقه" ليست بالمقولة التي تضمن العدالة للجميع.
ولئن كانت هذه المقولة غير بعيدة عن النظرية الداروينية الشهيرة في النشوء والارتقاء ومقولة داروين او قانونه البيولوجي :"البقاء للأصلح" فان جورج مونبيوت يختلف معها بشدة ويرفض "خصخصة الخدمات العامة" معبرا بذلك عن تيار له ثقله بين المثقفين في الغرب.
وقبل هذا الطرح انبرى مثقفون بارزون في الغرب مثل الكندية ناعومي كلاين لتتحدث عن "مبدأ الصدمة، و"رأسمالية الكوارث" وتندد بأفكار المدرسة القائدة لليبرالية الجديدة والمعروفة "بمدرسة شيكاغو" والتي دانت بالولاء للراحل ميلتون فريدمان "فيلسوف النيو ليبرالية" .
ولئن كان ميلتون فريدمان قد اشتهر بمقولة :"في الأزمات والصدمات يمكن احداث تغييرات حقيقية" فان ناعومي كلاين ترى ان هذه التغييرات انما تستغل الكوارث والشدائد لصالح شرائح رأسمالية لا تعنيها مصالح الجماهير او آلام الشعوب.
واذا كانت التفرقة واجبة بين "الليبرالية" و"الليبرالية الجديدة" فمن حين لآخر تشهد مصر ودول عربية اخرى ملتقيات وندوات حول تحديات الليبرالية وقضاياها في العالم العربي فيما رأى المحلل السياسي والكاتب الدكتور أسامة الغزالي حرب أن الأحزاب الليبرالية عليها ان تكون مدرسة للمواطنة وغرس قيم الحرية والمساواة واحترام الآخرين وعدم التمييز.
وتؤشر بعض الكتابات والندوات والأنشطة الثقافية-السياسية الى ان هناك التباسات وحالة من سوء الفهم في الشارع المصري والعربي على وجه العموم لليبرالية وبصورة تستدعي جهدا ثقافيا لتوضيح مصطلح "الليبرالية" وتبسيطه بعيدا عن "التباسات الليبرالية الجديدة" التي باتت تقترن بمفاهيم وتصورات سلبية مثل التوحش الرأسمالي.
ومع ان بعض المثقفين المصريين يؤكدون أن المجتمع المصري "ليبرالي بالفطرة كما هو متدين بالفطرة وانه لاتعارض بين الليبرالية والدين" فان بعض جوانب ازمة الليبرالية المصرية في الواقع الراهن تكاد لا تختلف عن "زمن ابو الليبرالية المصرية احمد لطفي السيد" الذي خسر معركة انتخابية بسبب التصورات الخاطئة في المخيال الشعبي لليبرالية والديمقراطية والتي قد يغذيها البعض عمدا لتحقيق مكاسب سياسية .
ويبدو ان الأزمة تتعلق بإشكالية مصرية -عربية أوسع نطاقا حيث يؤكد صوت مؤثر من أصوات الجماعة الثقافية المصرية هو أستاذ الاقتصاد الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى أهمية "تجاوز آفات التكوين العضوي للنخبة السياسية، والثقافية المصرية التي برهنت على إخفاق تاريخي مزمن".
وانعكس هذا الإخفاق - كما يقول الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى - على مسار الحركة الوطنية، والقومية "فإذا بها غير قادرة على مواصلة السير عبر الزمن لتحقيق الأهداف بعيدة المدى للمجتمع العربي في إطاره العالمي الراهن لذا تبدو البلاد، وكأنها تسير في حلقة مفرغة بفعل المحتوى الفارغ لنخبة عاجزة تدور حول نفسها بلا انقطاع تقريبا على اختلاف تلويناتها السياسية".
ويمضي عيسى في هجومه على هذه النخب فيصفها بأنها "قصيرة النفس، سريعة الغضب، مجوفة فكريا وسياسيا, لا تقارب شأنه مهما من شؤون البلاد والعباد الا ونشرت سحب اليأس المطبق من حوله ثم تعثرت لتجر الجماهير الغفيرة من خلفها نحو ضياع جديد".
وهكذا يقول :"إننا في انتظار فجر جديد ونخبة جديدة حقا ونمط قيادي غير مسبوق" فيما يرى ان "الشباب الليبرالي الذي تصدر جانبا من مشهد ثورة 25 يناير هو تعبير عن "جيل جديد على المستوى العالمي تقاذفته عواصف العولمة ذات المنحى الغربي".
غير أن هذا الجيل في مصر كما يراه الدكتور محمد عبد الشفيع عيسى لم يتعرض للتنشئة السياسية من أي نوع بسبب حالة الفراغ السياسي، والحزبي القاحل في ظل أنظمة سابقة.
وأضاف إن هذا الجيل الجديد "يتعرض لغواية وإغراء السياسة المعولمة" انطلاقا من الغرب "وتشاء المقادير ان تضع حديث الحريات في تقابل متعاكس مع حديث الدولة الوطنية وفي وجه عواصف مدمرة احاطت بالدولة في مصر وفي جوارها اللصيق من الاقليم العربي العتيد".
واذا كانت الكاتبة والمحللة السياسية الدكتورة هالة مصطفى قد ذهبت في معرض المقارنة بين الأحزاب في مصر، والغرب، وظروف نشأتها إلى أن الديمقراطية الغربية "لم تكن نتاجا تلقائيا للتعددية الحزبية بقدر ما كانت نتاجا لتعميق القيم والثقافة الديمقراطية وانتشار الثقافة العقلانية" فإن ثمة حاجة لتأمل نماذج تاريخية بغرض استلهام ما قد يفيد في إحياء الليبرالية المصرية، والتمييز بين "الليبرالية"، و"الليبرالية الجديدة"، ولعل من أكثر هذه النماذج أهمية نموذج أحمد لطفي السيد.
وأحمد لطفي السيد الذي يوصف بأنه "ابو الليبرالية المصرية" ولد في الخامس عشر من يناير عام 1872 وقضي في الخامس من مارس عام 1963 كان في فكرته "افلاطونيا" بجميع معاني هذه الكلمة بتعبير المفكر المصري العملاق عباس محمود العقاد.
ومن معانيها كما يوضح العقاد "ان الرجل العام ينبغي ان يعيش للمصلحة العامة تطوعا وحسبة بغير جزاء والا يشتغل بخاصة اموره الشخصية لأن الدولة التي يتجرد لخدمتها هي التي تتكفل له بكل وسائل التفرغ لتلك الخدمة وليس له بعد ذلك حق في وقته الخاص لغير القيام بحقوقها".
وهذا هو دستور الحكم الأفلاطوني كما شرحه الفيلسوف اليوناني في كتابه الموسوم باسم "الجمهورية"، وقد اشتهر في العالم القديم والعالم الحديث باسم "جمهورية أفلاطون" فيما كان فقيه القانون، والأديب عبد العزيز فهمي، وهو من أقدم زملاء وأصدقاء أحمد لطفي السيد يداعبه كثيرا من هذه الناحية.
فيقول كلما خالفه في رأي من ارائه الفلسفية او اللغوية :"انك يالطفي تفكر للكون كله ولا يعنيك امر الزمن القريب ولا أمر هذه الخلائق الفانية" وكان امتع ألوان الحديث بين الرجلين الكبيرين تلك التي تجري بينهما في السيارة اثناء الطريق من مقر مجمع اللغة العربية الشهير "بمجمع الخالدين" الى حي مصر الجديدة حيث يقيمان.
كان احمد لطفي السيد يعيش فعلا على وفاق هذا الدستور الأفلاطوني وكان قد عهد من زمن بعيد في زراعة ارضه وتثميرها الى بعض اقربائه ولا يتعرض لتفصيلات حسابها مكتفيا بما يقدمه وكيله عليها من حساب مجمل عن غلاتها ونفقاتها.
وكانت طريقته في تدبير نفقات البيت كطريقته في تدبير حساب ضيعته وهي الضيعة التي ابى ان يملكها كلها حين اراد ابوه ان يختصه منها بخمسمائة فدان لا تدخل في تقسيم الميراث بينه وبين إخوته فأبى ذلك ولم يقبل من الميراث غير حصته التي يستحقها مع سائر الورثة على سنة المساواة.
واحمد لطفي السيد كان ينظر للمسائل الفكرية والاجتماعية نظرة محيطة واسعة توشك ان تتعادل فيها جميع الجوانب والأطراف ولكنه كان من اشد المفكرين اعتماما بما يعتقد فيه الخير والصلاح وهو على ايمانه بعقائده العقلية والخلقية لايرى من المستحيل ان يكون لغيره الحق في ايمان كهذا الايمان.
ويقول عباس محمود العقاد في سياق تناوله لشخصية احمد لطفي السيد :"لاأذكر مرة واحدة في نحو عشرين سنة قضيناها معه بمجمع اللغة العربية انه حاول بالتصريح او التلميح ان يؤثر في اتجاه المناقشة او يقاطع صاحب رأي يعارضه وينفر منه".
تلك السماحة الواسعة في تقدير وجوه الخلاف جعلته مرجعا للمشورة الصادقة بين اصدقائه وتلاميذه من المشتغلين بالحكم والقائمين بأعمال الوزارات فقد كان يمحص الرأي من جميع جوانبه، ويوازن لهم بين جميع احتمالاته، ويتركهم احرارا فيما يختارون.
السماحة الخلقية تشارك هذه السماحة الفكرية في المسلك الديمقراطي لأحمد لطفي السيد بين الناس وبين المعتقدات..فلم يكن في طبعه ان يصادم احدا او يصطنع في الخصومة قسوة ولددا ولكنه يثبت في مكانه ويترك لمن يخالفه ان يصطدم به اذا شاء.
وقصة سقوط احمد لطفي السيد في انتخابات الجمعية التشريعية احدى اعاجيب الدعاية الانتخابية التي تعرض لها من جراء المناداة بالحقوق الديمقراطية اذ كان منافسه "الريفي الماكر" يشيع عنه انه يطلب للمرأة الحق في الجمع بين ازواج اربعة لأنه يطلب لها المساواة الديمقراطية وعندما يسأله الناخبون :"هل انت حقا من طلاب الديمقراطية"؟! يجيبهم بالتأكيد!.
وقد تلقى احمد لطفي السيد هذه الخسارة في المعركة الانتخابية بصبر الحكماء وفكاهة العظة والاعتبار وهو لايخفي اعجابه بذلك "الريفي الماكر" الذي غلبه باسم الديمقراطية وهذه الديمقراطية التي نادى بها احمد لطفي السيد فكرة وقولا عاش لها وعاش بها وكانت هي الطابع الذي طبع عليه بمزاجه قبل ان يطبع عليه بتفكيره ودراسته وكان بحق "ارستقراطيا بالشكل وديمقراطيا بالموضوع" .
كان هذا الرجل الممتاز بشخصيته وخلقه "فكرة في حياة" أو "حياة ملكتها الفكرة" في خاصة شأنه وعامة عمله وقوله حتى إن العقاد في تقييمه لهذا الليبرالي المصري العظيم وضعه بين مفكري العصور كرجل ديمقراطي المبدأ في تفكيره، وسياسته، ودعوته الوطنية.
وقال عنه " إنه في عصرنا هذا زميل عربي لأرسطو اليوناني تجدد مع الزمن في مدرسة الثورة الفرنسية..مدرسة فولتير وروسو ومونتسكيو وعاش بعدهم فتقبل من حكمة العصر ما كانوا يتنزلون إلى قبوله من حكمة القرن العشرين ولكنه لم يزل بعد منتصف هذا القرن على نمطه السلفي الافلاطوني فكرا في اهاب انسان".
واذا كانت "الليبرالية الجديدة" قد فشلت كما يرى مثقف بريطاني كبير مثل جورج مونوبيوت فان السؤال الطبيعي يكون عن البديل لهذه الفلسفة الاقتصادية والسياسية التي سادت منذ صعود مارجريت تاتشر ورونالد ريجان لسدة الحكم في بريطانيا والولايات المتحدة ولعل مصر الكبيرة بمثقفيها قادرة على الاسهام في الاجابة على هذا السؤال.. ولعل روح احد الآباء الثقافيين المصريين وقد اقترن اسمه بالليبرالية والحريات وهو احمد لطفي السيد تبارك هذا الاسهام لعالم يبحث عن "طعم الترياق وبراءة الليبرالية الأولى"!..العالم بحاجة لفلسفة للحرية تختلف عن "الليبرالية الجديدة" التي حولت الكرة الأرضية لتضاريس كآبة !!.