أ.د. عطية السيد يكتب .. "في الله عِوَضٌ عن كل فائت"
الجمعة 10/يناير/2025 - 01:02 ص
واعلم حفظك الله ورحمنا جميعا برحمته،، أن هذه الدنيا دار ابتلاء، وأن هذا الابتلاء لا ينجو منه أحد، بل إن أكثر الناس في الدنيا ابتلاء هم صفوة الله من خلقه وهم الأنبياء..
قال الله رب العالمين : "إِنَّا خَلَقْنَا الإنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ".. "الإنسان: ٢"..
• وأكثر من ذلك،، أن ما يعده الناس في دنياهم أكبر نعمة،، الولد والمال،، هما في حقيقتهما أكبر فتن الدنيا إذا ما انشغل بهما العبد عن طاعة رب العالمين : "واعلموا أنما أموالكم وأولادكم فتنة وأن الله عنده أجر عظيم".. "الأنفال : ٢٨"..
ولله در أبو فراس الحمداني القائل :
المَرءُ رَهنُ مَصائِبٍ لاتَنقَضي * حَتّى يُوارى جِسمُهُ في رَمسِهِ
فَمُؤَجَّلٌ يَلقى الرَدى في أَهلِهِ * وَمُعَجَّلٌ يَلقى الرَدى في نَفسِهِ
• وعقيدة المؤمن أن الصبر نصف الإيمان،، وأن كل مصيبة دون الدين هينة،، وأن جزاء الصبر علي مصائب الدنيا هو نعيم الآخرة،، وأن الآخرة خير وأبقى،، وأن ما عند الله خير للأبرار،، قال الله تعالى : "إِنَّمَا يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُم بِغَيْرِ حِسَابٍ".. "الزمر : ١٠"..
• وليس من معاني الرضا ألا يسأل العبد ربه العفو والعافية والمعافاة،، بل إن المعصوم صلى الله عليه وسلم علمنا بأن ندعو الله بهذه الدعوات صباح مساء : "اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ العافيةَ في الدُّنيا والآخرةِ،، اللَّهمَّ إنِّي أسأَلُكَ العفوَ والعافيةَ في دِيني ودُنياي وأهلي ومالي،، اللَّهمَّ استُرْ عَوْراتي وآمِنْ رَوْعاتي،، اللَّهمَّ احفَظْني مِن بَيْنِ يدَيَّ ومِن خَلْفي،، وعن يميني وعن شِمالي ومِن فَوقي،، وأعوذُ بعظَمتِكَ أنْ أُغتالَ مِن تحتي".. "صحيح ابن حبان"..
• ولما كانت الدنيا لا تستقيم علي حال،، فقد أوصانا نبينا صلى الله عليه وسلم أن نرضي بقضاء الله وقدره في كل حال،، فعن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : "إن عظم الجزاء مع عظم البلاء، وإن الله إذا أحب قوماً ابتلاهم، فمن رضي فله الرضا، ومن سخط فله السخط" .. "صحيح الترمذي"..
▪︎ وهذه بعض من مواقف الصبر واليقين،، لعباد من عباد الله الصالحين،، تظهر بيقين برد الرضا ونور اليقين عند وقوع البلاء،، لعلنا نقتبس منها العظة والعبرة :
• روي عن ابن عبّاس رضي الله عنهما أنه نعي إليه أخٌ له "وقيل بنتٌ له" وهو مسافر، فما زاد على أن استرجع وقال : "عورةٌ سترها الله، ومؤنةٌ كفاها الله، وأجرٌ ساقه الله"،، ثم تنحّى عن الطريق وصلّى، ثم انصرف إلى راحلته وهو يقرأ : "واستعينوا بالصبر والصلاة".. "البقرة : ٤٥"..
• وعن عبدالرحمن بن غنم قال : حضرتُ معاذ بن جبل رضي الله عنه وهو عند رأس ابنٍ له يجود بنفسه، فما ملكنا أن ذرفت أعيننا، وانتحب بعضنا، فغضب معاذ وقال : مه ؟ والله ليعلم رضاي بهذا أحب إلي من كل غزاة غزوتها مع رسول الله صلى الله عليه وسلم؛ ثم قال : ما يسرني أن لي أُحُداً ذهباً وأني أسخط بقضاء قضاه الله بيننا،، فقُبض الغلام، فغمضناه، وذلك حين أخذ المؤذن في النداء لصلاة الظهر، فقال معاذ : عجّلوا بجهازكم؛ فما فجأنا إلا وقد غسّله وكفّنه وحنّطه خارجاً بسريره، قد جاز به المسجد غير مكترث لجميع الجيران ولا لمشاهدة الإخوان؛ وتلاحق الناس ثم قالوا : أصلحك الله، ألا انتظرتنا نفرغ من صلاتنا ونشهد جنازة ابن أخينا ؟ فقال معاذ : إنا نُهينا أن ننتظر بموتانا ساعةً من ليل أو نهار، ثم نزل الحفرة فناولته يدي لأعينه فأبى، فقال : والله ما أدع ذلك من فضل قوة، ولكني أتخوّف أن يظن الجاهل أن بي جزعاً واسترخاء عند المصيبة !. ثم خرج فغسل رأسه، ودعا بدهن فادّهن، ودعا بكحل فاكتحل، ودعا ببردة فلبسها، وقعد في مسجده فأكثر من التبسّم، ثم قال : إنا لله وإنا إليه راجعون، في الله خلف من كل فائت، وغناء من كل عزم، وأنس من كل وحشة، وعزاء من كل مصيبة، رضينا بالله رباً وبالإسلام ديناً وبمحمد نبياً..
• وعن الربيع بن أبي صالح قال : دخلت على سعيد بن جبير حين جِيءَ به إلى الحجاج، فبكى رجل، فقال له سعيد : ما يبكيك ؟ قال الرجل : لما أصابك يا سعيد، قال : فلا تبك، كان في علم الله أن يكون هذا، ثم تلا : "ما أصاب من مصيبة في الأرض ولا في أنفسكم إلا في كتاب من قبل أن نبرأها".. "الحديد : ٢٢"..
• ووقف سليمان بن عبدالملك على قبر ولده أيوب فكان صابراً راضياً، وما زاد على أن قال : "اللهم إني أرجوك له، وأخافك عليه، فحقق رجائي، وآمن خوفي"..
• وعن زياد بن أبى حسان أنه شهد عمر بن عبد العزيز حين دفن ابنه عبد الملك، فلما أتمّ دفنه استوى قائما وأحاط به الناس، فقال : رحمك الله يا بُنيّ، لقد كنت براً بأبيك، وما زلتُ منذ وهبك الله لي بك مسرورا، ولا والله ما كنت قط أشد سروراً ولا أرجى لحظة من الله فيك منذ وضعتك في الموضع الذي صيّرك الله، فرحمك الله وغفر لك ذنبك وجزاك بأحسن عملك، وتجاوز عن سيئاتك، ورحم كل شافع يشفع لك بخير من شاهد وغائب، ورضينا بقضاء الله وسلمنا لأمره، والحمد لله رب العالمين،، ثم انصرف...
• وفي حلية الأولياء وطبقات الأصفياء يروي أنه لما مات ذر بن عمر بن ذر الهمداني، وكان موته فجأة، جاء أباه أهل بيته يبكون، فقال : ما لكم ؟ إنا والله ما ظلمنا، ولا قهرنا، ولا ذهب لنا بحق، ولا أخطئ بنا، ولا أريد غيرنا، وما لنا على الله معتب،، فلما وضعه في قبره قال : رحمك الله يا بني، والله لقد كنت بي بارا، ولقد كنت عليك حدبا، وما بي إليك من وحشة، ولا إلى أحد بعد الله فاقة، ولا ذهبت لنا بعز، ولا أبقيت علينا من ذل، ولقد شغلني الحزن لك عن الحزن عليك، يا ذر لولا هول المطلع ومحشره لتمنيت ما صرت إليه، فليت شعري يا ذر ما قيل لك، وماذا قلت، ثم قال : اللهم إنك وعدتني الثواب بالصبر على ذر، اللهم فعلى ذر صلواتك ورحمتك، اللهم إني قد وهبت ما جعلت لي من أجر على ذر لذر صلة مني، فلا تعرفه قبيحا، وتجاوز عنه، فإنك أرحم به مني، اللهم وإني قد وهبت لذر إساءته إلي فهب له إساءته إليك، فإنك أجود مني وأكرم، فلما ذهب لينصرف قال : يا ذر قد انصرفنا وتركناك ، ولو أقمنا ما نفعناك،، ثم انصرف وبقي القوم متعجبين مما جاء منه من الرضا عن الله والتسليم له..
• ويُذكر أن أعرابية فقدت أباها ثم وقفت بعد دفنه فقالت : يا أبتي، إن في الله عوضاً عن فقدك، وفي رسوله صلى الله عليه وسلم من مصيبتك أسوة، ربي لك الحمد، اللهم نزل عبدك مفتقراً من الزاد، مخشوشن المهاد، غنياً عما في أيدي العباد، فقيراً إلى ما في يدك يا جواد، وأنت يا ربي خير من نزل بك المرمّلون، واستغنى بفضلك المقلّون، وولج في سعة رحمتك المذنبون، اللهم فليكن قِرى ضيافة عبدك منك رحمتك، ومهاده جنتك.. ثم انصرفت راضيةً بقضاء الله محتسبة للأجر..
يارب : نسألك العفو والعافية والمعافاة في الدين والدنيا والأخرة..
يارب : أحينا مسلمين، وأمتنا مؤمنين، وألحقنا بالصالحين، غير خزايا ولا مفتونين..
أسعد الله صباحكم،، وجمعتكم،، وجميع أوقاتكم...
ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
بقلم
أ.د/ عطية السيد عبدالعال
وكيل كلية التربية بنين بالقاهرة - جامعة الأزهر - للدراسات العليا والبحوث
مستشار رئيس الهيئة القومية لضمان جودة التعليم والاعتماد لشؤون التعليم