في السنوات الأخيرة، تحوّلت مواقع التواصل الاجتماعي من وسائل ترفيه وتواصل، إلى منصات لصناعة الرأي، وتشكيل السلوك، والتأثير العميق في الوعي الجمعي. ومن أبرز هذه المنصات تطبيق "تيك توك"، الذي أصبح الساحة الأولى للترندات، والمصدر الأساسي للمحتوى بالنسبة لقطاعات واسعة من الشباب، ومع هذا التحوّل برزت إشكاليات اجتماعية جديدة، لم تعد تتعلق فقط بجودة المحتوى، بل بعمق تأثيره على القيم والسلوك العام، وصولًا إلى تدخل الدولة في بعض الحالات، عندما يتحول "الترند" من أداة ترفيه إلى تهديد مجتمعي.
وذلك الي ان جاءت حملة الأجهزة الأمنية المصرية ضد مجموعة من صناع المحتوى على تطبيق "تيك توك"، لتفتح ملفاً بالغ الحساسية يتعلق بعلاقة هذه المنصات بالأمن القومي من جهة، وبالقيم الاجتماعية والثقافية من جهة أخرى، ليست هذه الحملات الأمنية ارتجالية أو موجهة ضد حرية التعبير، بل هي إجراءات مبنية على تقارير وبلاغات ترصد استخدام المنصات الرقمية لنشر محتوى يحرض على الفجور أو الانحلال الأخلاقي، ويتعمد تشويه صورة الدولة أو بمؤسساتها، وذلك يخلق نماذج شبابية فارغة من القيم، ما يُستخدم كأداة ناعمة لهدم الثقة بين المواطن ومؤسسات الدولة.
وهنا يصبح الأمن القومي مفهوماً متسعاً يتجاوز البندقية إلى السيطرة على الوعي، فكل محتوى ينشره شخص غير مسؤول، قد يُعيد تشكيل إدراك آلاف الشباب لمعنى الوطن والهوية والانتماء، وهي أسس تقوم عليها بنية الأمن القومي لأي دولة. بالإضافة إلى التفكك القيمي والبعد الاجتماعي للأزمة وهنا تظهر أزمة ثقافية حقيقية فنحن أمام جيل يتلقى تربيته من "ترند"، ويتخذ من أشخاص بلا رصيد فكري أو أخلاقي قدوة ومَرجعًا. وهنا يقع الدور على الدولة، والأسرة، والمؤسسات التعليمية والدينية، في استعادة التوازن وضبط هذا الخلل المجتمعي.
فلا أحد ينكر أن المحتوى الرقمي أصبح جزءاً من الحياة اليومية، لكن الخطر يبدأ عندما يُقدم المحتوى على أنه "قدوة" في غياب النماذج الحقيقية، ثم تتحول الشهرة السريعة إلى هدف بحد ذاتها، بغض النظر عن الوسيلة، إلى أن يُروّج لسلوكيات غير مسؤولة تُغلف تحت مسميات "الحرية" و"الكوميديا"، فهذه ترندات تقوم على الشتائم، والسخرية، والاستعراض المفرط للخصوصية، وكلها تُسهم في نشر أنماط سلوكية هشة تؤثر بشكل مباشر على البناء الاجتماعي.
فالآباء والأمهات في كثير من الأحيان، غير مدرّبين على التفاعل مع عالم أبنائهم الرقمي، مما يُحدث فجوة تربوية، تتسلل منها التيك توكرز والمؤثرات إلى عقول الأطفال والمراهقين، حيث تواجه الأسرة المصرية مأزق التربية الرقمية.
الترند لحظة والمجتمع تاريخ وما نراه اليوم من تجاوزات، يجب أن لا يُقابل بالصمت أو التهوين، فكل فرد مسئول عن الحفاظ على النسيج الاجتماعي، ومواجهة التفكك الناعم الذي قد يبدو ممتعاً على الشاشة، لكنه مُدمّر على المدى البعيد.
لذلك فحين يصطدم الترند بالقانون، فلا بد أن نراجع أنفسنا قبل أن نراجع المحتوى، كما نحتاج إلى تشريعات مرنة، لكنها حاسمة، ونحتاج إلى محتوى بديل راقٍ وقوى، وقبل كل شيء إلى تربية رقمية تبدأ من المنزل، وتُكملها المدرسة، وتدعمها الدولة والإعلام، ولا يمكن قبول محتوى يعبث بقيم المجتمع، أو يستخف بالمؤسسات، أو يدمر الصورة الذهنية للشباب عن الحياة والعمل والنجاح.